يخل القهر والرضوخ الذي يعيشه الإنسان المتخلف بتوازنه الوجودي، مما يولد عنده توترا نفسيا حادا يهدد حياته، وبما أنه لا بد ملاستمرار الحياة من حد أدنى من الانسجام والتوازن فإن الإنسان المتخلف يلجأ إلى بعض الحلول لمجابهة هذه الوضعية المأزقية، ويقسم مصطفى حجازي هذه الحلول إلى فئتين:الفئة الأولى والأكثر فعالية هي محاولة التمرد وقلب المعادلة من أجل خلق ظروف تحقق أدنى حد من الاعتبار الذاتي والتوازن الوجودي الضروري لاستمرار الحياة.
ولكن هذا الحل رغم أهميته وقيمته على المدى البعيد تسبقه في التسلسل التاريخي حلول أخرى سماها المؤلف (الأساليب الدفاعية)، ستكون هي موضوع هذه المقالة، وهي حلول “لا تحاول التغيير ولا تقوى عليه، بل تهدف إلى التأقلم والتلاؤم مع الوضعية الراهنة بشكل يخفف من وطأتها، ويكفل شيئا من الانسجام الوجودي، كما يكفل نوعا من تحقيق الذات الظاهري” ص99.
ولا بد من التنبيه إلى أن هاتين الفئتين من الحلول لا تتعاقبان بشكل قطعي (إما هذا أو هذا)، ولكنها قد تتداخل بنسب معينة في وقت واحد، ذلك بأن الظاهرة الاجتماعية بطبيعتها مركبة ومتداخلة السمات، فمرحلة القهر والرضوخ تحمل في رحمها بذور التمرد والثورة، والعكس صحيح كذلك.
هناك أربعة أساليب تظهر في محاولات الإنسان المتخلف التغلب على وضعيته المأزقية، وهي أساليب ـ كما يقول المؤلف ـ “تنتظم في أزواج متناقضة في اتجاهها متكاملة جدليا في تضادها” ص99، وهذا التجاذب الحاصل بين هذه الأساليب يطبع ويميز سلوك الإنسان المقهور ونمط وجوده على الدوام.
مركزية المتسلط
تتسم حياة الإنسان المقهور بما يمكن تسميته بـ(مركزية المتسلط)، الذي يؤثر في كل حركات الإنسان المتخلف قربا منه أو هروبا عنه، تمردا عليه أو استسلاما له، وفي ضوء الأساليب الأربعة السابقة يتحرك في اتجاهين متناقضين:
ـ التحرك الأول الذي يظهره سلوك الإنسان المتخلف في أساليبه الدفاعية هو سلوك ذو اتجاهين؛ أحدهما نحو (المتسلط) اقترابا منه وتماهيا به وتقربا له، والثاني نحو (الجماعة الأصلية) انصهارا فيها وغيابا في مجموعها، والعلاقة بين الاثنين عكسية، فبقدر ما يتنكر للمتسلط ويبتعد عنه، يندمج في جماعته الأصلية التي تشاركه قدره ويذوب فيها.
ـ التحرك الثاني أيضا ذو اتجاهين متناقضين، أحدهما نحو “القتال والعنف ومجابهة المتسلط”، أما الثاني فنحو”الهروب المستسلم في الحلول الفاترة السحرية والاتكالية الخرافية من ناحية ثانية”، وبقدر ما تنشط عمليات التصدي تفتر الحلول الاستسلامية والعكس صحيح.
لكن هل الأساليب الدفاعية للإنسان المتخلف محصورة في هذه الأساليب الأربعة السابقة الذكر؟، هناك أساليب أخرى منها:
الانكفاء على الذات
يشيع الانكفاء على الذات في ردود الأفعال على الفشل الذي يصحبه إحساس داخلي بالعجز وانعدام الحيلة، وهو حالة تلاحظ عند الكبار والصغار على حد سواء، وفيه يحاول الإنسان “أن يقمع رغبته حتى لا يشعر بآلام الإحباط، يقطع الصلة بموضوعات هذه الرغبة كي لا تثير في نفسه قلق الخواء، وما يجره من إحساس بانعدام القيمة” ص102.
ويضرب المؤلف أمثلة على بعض حالات الانكفاء الذي يأتي كأسلوب دفاعي نفسي أمام الفشل فيقول:”التلميذ الذي عجز عن إثبات ذاته في الصف ينزوي متبلدا في ركنه، العاشق الفاشل يقمع جذوة الحب في نفسه، ويبخس المحبوب الذي يشكل مرآة لفشله” ص102.
ومن أنماط الحركة النفسية التي يقوم بها الإنسان المقهور لمجابهة التحديات التي تواجهه في علاقته بالمتسلط؛ هي أن يغذي مشاعر عدوانية تجاهه ويبتعد عنه بطريقة متطرفة تشمل كل ما يمثله في نظره من قيم ونمط حياة وأدوات (الشرطة ـ المحاكم ـ القضاء ـ الإدارة إلخ).
وحتى لا يتعرض لأذى من المتسلط وأدواته لا يكتفي بتجنب ماله علاقة مباشرة به “بل يتهرب من المشاركة في كل ما هو عام، إنه يقف موقف المتفرج والعاجز أو الشامت، لا يستجيب لنداء ولا ينخرط في نشاط ولا يساعد فيما يرتد على المجموع بشيء من الخير” ص103. وهذا ما قد يفسر سلوك جماهير العالم الثالث المقهورة تجاه كل دعوات التغيير والإصلاح قبل الربيع العربي.
حالة المفاصلة السلبية مع المتسلط وكل ما له علاقة به قد تأخذ شكل رفض نشط يقوم على أساس الاختلاف الجذري بين عالمين متعارضين ومتناقضين، عالم المتسلط وعالم الجماعة الأصلية، وهو ما يشكل الحركة الثانية التي تتمم الأولى، وهنا يحصل التمسك الشديد بالجماعة وتراصها خصوصا في وجه المتسلط الخارجي (المستعمر).
في مرحلة الانكفاء على الذات الذي يؤدي للانصهار في (الجماعة الأصلية) يشيع التمسك بالتقاليد وتنهض دعوات السلفية (السلفية عند المؤلف تعني الرضوخ للتقاليد والأعراف، والاحتماء بالماضي وأمجاده) ـ حسب المؤلف ـ بشكل يتناسب مع درجة القهر التي تمارس على الإنسان، وقد ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن”التخلف هو أساسا تحكم السلفية في حركة المجتمع”.
ليست السلفية هنا ـ حسب المؤلف ـ “خاصية انبنائية اجتماعية، بل في الوقت نفسه أوالية دفاعية نفسية” ص104، فرغم أن (السلفية) في العادة هي موجه للسلوك وضابط له إلا أنها ـ من الناحية النفسية ـ لدى الإنسان المقهور معيارا للحياة ونظرة للوجود. ورغم القيمة الإيجابية لـ”السلفية) في مواجهة الغزو الثقافي والحضاري الذي تشنه الدول الاستعمارية على الشعوب إلا أن بروزها هناك يدل على أنها كامنة وفاعلة في نفس الوقت حتى ولو غابت شكليا، ذلك بأن القاعدة التي يسطرها المؤلف تقول بأن:”ما يبدو واضحا في أوقات الأزمات أو الفترات العصيبة من تاريخ مجتمع ما، يعمل بشكل خفي في فترات الهدوء، وله وظائف متقاربة في الحالتين” ص105.
لكن الجانب الأكثر سلبية في (السلفية) هو استغلال المتسلط لها وتشجيعه لاستمرارها وترسيخها، وذلك لأنها تكرس امتيازاته وتعطيها صبغة الأمر الطبيعي والقانون الطبيعي الذي يحكم الحياة، وبالتالي لا يجوز المساس به من ناحية (التمسك بالتقاليد).
تلك بعض الأساليب الدفاعية التي يستخدمها الإنسان المقهور من أجل تبرير استمرار قهره بإعطاء نفسه نوعا من التوازن الوجودي الوهمي يسمح له بخفض نسبة التوتر التي يسببها القهر المسلط عليه من قبل المتسلط أو الطبيعة.
وفي المقال القادم نناقش بقية تلك الأساليب ونختم قراءتنا في هذا الكتاب الماتع المفيد.