سبق الحديث عن أهمية مذاهب الفقه الإسلامي الأربعة ونشأتها واتصالها بمدارس الفقه في عصر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وإذا أطلق المذهب عند علماء الفقه فإنهم يقصدون المنهج الفقهي الذي سلكه فقيه مجتهد، اختص به من بين الفقهاء أدى به إلى اختيار جملة من الأحكام في مجال علم الفروع[1]. ومذاهب الفقه الإسلامي الأربعة – وهي مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة – تلك المذاهب التي أسسها أئمة الفقهاء الأعلام، التي شرقت وغربت، واشتهرت آراؤهم وفتاواهم بين الماضي والحاضر. وهذا المقال يركز على مذهب الحنفية الذي يعد أوسع مذاهب الفقه وأقدمها زمنا. وبين يدي ذلك نشير بإيجاز إلى خصائص تميز بها هذه المذاهب وساهمت في بقائها إلى هذا الوقت.
حظيت هذه المذاهب بالخدمة الكبيرة الفريدة من نوعها، من قبل خواص تلاميذهم الذين شمروا عن سواعد الجد، ونقلوا آراء هؤلاء الأعلام بمنتهى التحرير والاتقان. وتتميز هذه المذاهب الباقية إلى اليوم بأمور تعد خصائص مشتركة بينها، ومن هذه المميزات:
1- لكل مذهب من هذه المذاهب المذكورة بناء فقهي هائل له مؤلفاته وقواعده وأصوله وعلماؤه ومؤلفاتهم، وتمتد جذور كل مذهب إلى مؤسسه صاحب المذهب.
2- مؤسسو المذاهب علماء أعلام تربوا على أيدي من سبقهم من العلماء، وأخذوا عنهم ما حفظوه وفقهوه من ميراث النبوة.
3–كان لأصحاب الأئمة من بعدهم من التلامذة والمنتسبين دور كبير في استيعاب علوم أئمتهم، وفي حفظها ونقلها، وصانوها من الضياع، ولولا الله ثم هذه الجهود الكبيرة لضاعت مذاهبهم كما وقع لغيرهم من أقران أئمة المذاهب، فهذا الليث بن سعد عالم مصر ومحدثها وفقيهها، كان جمع من العلماء يقدمون على الإمام مالك ولكن أصحابه لم يحفظوا فقهه. قال الشافعي: (الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به)[2].
ويذهب صاحب الفكر السامي إلى أن المذاهب الفقهية التي دونت في المائة الثانية الهجرية، المقلدة أربابها ثلاثة عشر مذهبا وذلك بعد الصحابة[3].
ومما يجب التنبه له أن دور أصحاب الأئمة وتلامذتهم لم يقتصر في بعض الأحوال على مجرد نقل أقوال الأئمة واستيعابها، فقد كان الجيل الأول من أهل كل مذهب أصحاب عقول راجحة، قادرة على النظر والاستنباط، لذلك كان البعض منهم قد يزاحم الأئمة في الاجتهاد دون الشعور بأي حرج. شاهدنا ذلك في مذهب أبي حنيفة النعمان رحمه الله، حيث شارك الإمام أصحابه في تأصيل المذهب وإنضاجه. والكتب المعتمدة في مذهب الحنفية لا تقصر على أقوال أبي حنيفة وحده. وهذا يحيلنا إلى الخاصية الأخيرة التي تلمح لنا من خصائص هذه المذاهب.
4- كان الاجتهاد في مرحلة نشأة المذاهب وانتشارها مفتوحا لم تغلق أبوابه، ولم يكن ثمة تقليد إلا من العامة الذين يقلدون من يستفتونه.
ترجمة أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ولد أبو حنيفة سنة ثمانين بالكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان، في حياة صغار الصحابة. ورأى: أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم[4]. وجزم بعض أهل العلم أنه أدرك أربعة من الصحابة وهم: أنس بالبصرة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي في المدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحدًا منهم.
وبناء على ذلك فأبو حنيفة رحمه الله برؤيته لأنس رضي الله عنه بعد من التابعين، فإن أكثر المحدثين على أن التابعي هو من لقي الصحابي وإن لم يصحبه أو يرو عنه.[5]
وروى عن: عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له، وأفضلهم – على ما قال – وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة.. وخلق كثيرون غيرهم.
أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علقمة، والأسود بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وأما تلاميذ أبي حنيفة ومن حدث عنه فخلق كثير، لكن اشتهر منهم حمزة الزيات – وهو من أقرانه – ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، ولازمه في الفقه: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وزفربن الهذيل التميمي الفقيه[6].
عاش أبو حنفية الجزء الأكبر من حياته في عصر الأمويين، وأدرك عز الدولة الاموية وقوتها، ثم أدرك بداية فترة اضطراب الدولة ونقص الأرض من أطرافها واستيلاء بني العباس، بين أبو زهرة أثر مشاهد الظروف السياسية المتقلبة في حياة أبي حنيفة، فقال: “ولد ونشأ أبو حنيفة بالكوفة، وفي العراق علم وفلسفة وحكمة، واتجه أول حياته إلى علم الكلام يجتاز سهوله وأحزانه، ثم تحول إلى علم الفقه بعد أن شدا ونما فيه، وإن له فيه مؤلفا سماه الفقه الأكبر، حكى عنه زفر، أنه قال: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغا يشار إليه فيه بالأصابع”، ويروى عنه أنه قال: كنت أعد الكلام أفضل العلوم ثم علمت أنه لو كان فيه خيرا لتعاطاه السلف الصالح فهجرته”[7].
هذا يؤكد أن أبا حنيفة توجه لطلب العلم من باكورة حياته، وأكد ذلك الإمام الذهبي في السير في حكايته عن سبب انصرافه إلى علم الفقه والتعلم على يد حماد بن أبي سليمان[8]. وورث حلقة شيخه حماد، وكانت هذه الحلقة تعج بأصحاب حماد وقاصدي الفقه، ومع جلوس أبي حنيفة على رأس هذه الحلقة وبراعته وعلمه وصبره ومواساته بورك في هذه الحلقة، وقصدها الناس من كل مكان، حتى أصبحت أكبر حلقة في المسجد، وتخرج عليه خلق لا يحصون[9].
فقه الإمام أبي حنيفة وثناء العلماء عليه
أثنى العلماء ومعهم بقية أئمة المذاهب المعتمدة على فقه الإمام أبي حنيفة لفضله، وسبقه وتميزه، والإشادة بمنهاج الإمام أبي حنيفة، نذكر طرفا من ذلك.
قال عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان، كنت كسائر الناس.
وذكر الشافعي أنه قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا، لقام بحجته.
وأما النضر بن شميل فإنه كان يقول: كان الناس نيامًا عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتَّقَه وبينه.
وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.
ودقق الشافعي في الأمر فقال: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
علق الذهبي بعد ذكر ثناءات العلماء على أبي حنيفة وفقهه فقال: “الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين – رضي الله عنه، ورحمه -.
توفي أبوحنيفة شهيدا، مسقيا، في سنة خمسين ومائة، وله سبعون سنة، وعليه قبة عظيمة، ومشهد فاخر ببغداد – والله أعلم -.
وابنه الفقيه حماد بن أبي حنيفة، كان ذا علم، ودين، وصلاح، وورع تام.
لما توفي والده، كان عنده ودائع كثيرة، وأهلها غائبون، فنقلها حماد إلى الحاكم ليتسلمها، فقال: بل دعها عندك، فإنك أهل.
فقال: زنها، واقبضها حتى تبرأ منها ذمة الوالد، ثم افعل ما ترى.
ففعل القاضي ذلك، وبقي في وزنها وحسابها أياما، واستتر حماد، فما ظهر حتى أودعها القاضي عند أمين.”[10]
نشأة مذهب الحنفية في الفقه
ترجع نشأة مذهب الحنفية في أوائل القرن الثاني الهجري وتحديدا سنة (120هـ)، وذلك يوم أن جلس أبو حنيفة رحمه الله على كرسي الإفتاء والتدريس خلفا لشيخه حماد بن أبي سليمان، فكان هذا العام شاهدا على نشوء أول مذهب فقهي معتمد[11].
ومن خلال هذه المدرسة التي ترأسها أبو حنيفة تمدد وانتشر ما عرف اليوم بالمذهب الحنفي، إذ أصبح له تلاميذ وأصحاب يلازمون حلقته ويدونون آراءه وينشرونها، فكان لهم بذلك – لا سيما الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن – دور كبير في قيام المذهب وانتشاره.
قال ابن عبد البر: كان لأبي حنيفة أصحاب جلة، رؤساء في الدنيا، ظهر فقهه على أيديهم، أكبرهم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري.
فأمَّا أبو يوسف : فقد كان أوَّل من صنَّف الكتب في مذهب أبي حنيفة، فدوَّن آراءه ورواياته, وذلك من خلال مصنفات ككتاب (الآثار) الذي رواه عن أبي حنيفة، وكتاب (اختلاف ابن أبي ليلى) الذي انتصر فيه لشيخه في خلافه مع ابن أبي ليلى، وكتاب (الرد على سير الأوزاعي) الذي انتصر فيه أيضا لمذهبه وشيخه.
وتولى أبو يوسف القضاء للعباسيين طيلة ست عشرة سنة، وأوكل إليه مهمة اختيار القضاة في أرجاء الخلافة العباسية ، فكان لا يولي في الغالب إلا حنفي المذهب، فكان لذلك أثر كبير في انتشار المذهب.
وأما محمَّد بن الحسن: فهو راوية المذهب الحنفيِّ الذي نشر علم أبي حنيفة أيضا بتصانيفه الكثيرة؛ حيث قام بتدوين الأصول الستَّة للمذهب الحنفيِّ، أو ما يعرف بكتب (ظاهر الرواية)، والتي تعدُّ المرجع الأوَّل في فقه الحنفيَّة، وهذه الكتب هي (المبسوط «الأصل»، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسِّير الصغير، والسِّير الكبير).
قواعد مذهب الحنفية
يعتمد المذهب هلى قواعد علمية راجعة إلى الوحيين الكتاب والسنة والصحيحة، نص على ذلك الإمام أبو حنيفة بنفسه مبينا أصول مذهبه، قال: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله -ﷺ، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله -ﷺ، أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب -وعدَّد منهم رجالًا، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا.
وأصول مذهب الحنفية كثيرة استوعبها أصحابه في كتبهم، كالإمام البزدوي، وبعده محب الله بن عبد الشكور، وفي كتابه مسلم الثبوت في أصول الحنفية والشافعية، المتوفَّى سنة “1119هـ” وغيرهما، ولا يمكننا استيعابها، وإنما ذكرنا هنا الأصول الأولية التي تفرَّعت عنها تلك الأصول الأخرى، والحق أن هذه الأصول الثانوية مخرَّجة ومستنبطة من كلامه، ولا نصَّ عليها بالتعيين عنه. مثلًا قولهم: إن من أصول مذهبهم أن العام قطعي الدلالة كالخاص، وأن مذهب الصحابي علي خلاف العموم مخصص له، وأن العادة في تناول بعض خاص مخصِّصة أيضًا، وأن الخاص مبيّن ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة على النصّ نسخ، وأن لا ترجيح بكثرة الرواة، ولا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي، ولا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلًا، وأن موجب الأمر هو الواجب البتة[12].
[1] عمر سليمان الأشقر، المدخل إلى دراسة المذاهب والمدارس الفقهية (44)
[2] المرجع السابق (42)
[3] محمد بن الحسن الحجوي الفاسي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/410).
[4] سير أعلام النبلاء (6/392).
[5] وحدة البحث العلمي بإدارة الإفتاء، المذاهب الفقهية الأربعة أئمتها – أطوارها – أصولها – آثارها (18) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت، الطبعة الأولى، 1436هـ – 2015م.
[6] سير أعلام النبلاء (6/393).
[7] الملكية ونظرية العقد.. (34).
[8] روى زفر عن أبي حنيفة أنه قال: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يوما، فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟
فلم أدر ما أقول، فأمرتها أن تسأل حمادا، ثم ترجع تخبرني.
فسألته، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت، فقد حلت للأزواج.
فرجعت، فأخبرتني.
فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي، فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد، فأحفظها، ويخطئ أصحابه.
فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة. .. انظر سير أعلام النبلاء.
[9] المذاهب الفقهية الأربعة أئمتها – أطوارها – أصولها – آثارها (10)
[10] سير أعلام النبلاء (6/403).
[11] المذاهب الفقهية… (15)
[12] الفكر السامي (1/424)