نقطة الانطلاق لفهم العقل هو إدراك حجم التشابه والتناقض بينه وبين الكون، فالكون يتميز بالاتساع الذي لا حدود له، فهناك مائة مليار مجرة، بعضها يضم مائة مليار نجم، ومازال في الكون مناطق سوداء تشير إلى اتساع لم تستطع أعظم الميكروسكوبات أن تتوصل إلى ماهيته، أما العقل فهو قمة الاختزال في الكون، ففيه مائة مليار من الأعصاب وأليافها وممرات الطاقة، وهو ما يجعل العقل والكون من أكبر الأسرار وأعقدها في الوجود.
كانت بعض الحضارات ومنها الفرعونية، ترمي العقل بعيدا عن الجسد أثناء التحنيط باعتباره عضوا غير نافع، وأخرى تظن أن الدماغ يكمن فيه قزم صغير هو الذي يوجه الإنسان، غير أن تطور التشريح، وتوصل العلماء إلى أشعة الرنين المغناطيسي كشف حجم التعقيد الذي يتكون منه الدماغ الإنساني، ومقدرته الهائلة على التحكم والإدراك والوعي.
وكشف تطور المعرفة بالكون والعقل أن تلك المعرفة لا تأخذ من قماشة الجهل، لكنها تكشف ضخامة المجهول في الكون والعقل، لذا يقف الإنسان بعلمه حائرا قلقا أمامها، وهو ما يوضحه كتاب “مستقبل العقل: الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته” لـ “ميشيو كاكو” فيزيائي أمريكي من أصل ياباني وحائز على جائزة نوبل لتشاركه مع آخرين في نظرية “الأوتار الفائقة”، والكتاب يقع في (428) صفحة، وصادر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت أبريل 2017.
تنافس على العقل
الكتاب مثير ومليء بالعلم، ونظرياته، فـ”كاكو” ليس عالما وفيزيائيا كبيرا وحسب، ولكنه قدم برامج علمية وأفلام وثائقية لعدد من الفضائيات العالمية، ومن ثم فالرجل رجل علم وإعلام معا، يمتلك المعرفة، ويتملك أدوات ووسائل توصيلها للجمهور، وهو ما يجعل الكتاب بديعا، وعميقا، وقريبا للفهم والاستيعاب رغم كثافة المادة العلمية، فموضوع الكتاب هو الأبحاث العلمية المتسارعة والكثيفة الساعية لكشف أسرار العقل الإنساني، كخطوة أولى في طريق السيطرة على العقل والوعي الإنساني كهدف استراتيجي لتلك الأبحاث.
يؤكد “كاكو” أن هناك غير عادي بين أوروبا والولايات المتحدة حول “علم العقل”، ففي العام 2013م رُصدت عدة مليارات من الدولارات لمشاريع حول هندسة الدماغ، ومحاولة فكرة شفرته العصبية المعقدة ، ويرتبط بذلك مصالح وأنشطة اقتصادية، لكن الشيء الأكثر إثارة للجدل هو محاول تصنيع نسخة من الدماغ، وإمكانية سحب المعلومات والمعرفة المتراكمة في العقل الإنساني في حال وفاة الشخص وتخزينها، وإمكانية التجسس على أفكار الإنسان وتسجيل أحلامه وخواطره، والتحكم في الإنسان من خلال التحكم في العقل والإرادة، لكن يعود “كاكو” فيؤكد حقيقة مهمة في دراسة “علم العقل” وهي أنه كلما فهم العلماء آلية التفكير الإنساني بشكل أفضل، كلما برزت الأسئلة بشكل أكبر، فالعقل أكبر الأسرار على الأرض، فـ”العقل فوق المادة” كما يشير “كاكو”.
إشكالات كبرى
يطرح الكتاب مجموعة من الإشكالات حول العقل، والعلوم المرتبطة بفهمه، والأبحاث التي تدور حوله، لكن المميز أن إشكالاته كانت في الحقيقة كانت مشاريع إستراتيجية كبرى أنُفقت عليها المليارات، واستمرت لسنوات طويلة، وكانت مجالا للتنافس بين قوى دولية كبرى، ومنها:
– التجسس العقلي: هناك مجموعة من البحوث العلمية تناولت ظاهرة التخاطر، ومحاولات التجسس على دماغ الإنسان، والحصول على الأفكار والكلمات التي تدور في العقل من خلال وصله بآلة، فتم اختبار ما يسمى بـ”خوذ التخاطر” التي يرعاها الجيش الأمريكي، حيث يأمل في اختراع خوذة تنقل الأفكار من وإلى الجنود دون الحاجة إلى استخدام الكلمات أثناء القتال، وهنا يشير الكتاب إلى الدور الذي تلعبه وكالة “داربا” Darba وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، وهي تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، وأنشئت في الخمسينيات، وكان من انجازاتها إنشاء وكالة “ناسا” للفضاء، وشبكة الانترنت، وبرنامج تحديد المواقع GPS، وكان لها دور كبير في ابتكار الموبايل وأقمار الرصد، هذه الوكالة رصدت ميزانية قدرها ثلاثة مليارات دولار لبحث التفاعل بين الدماغ والآلة، وربما الهدف الحقيقي للمشروع هو اقتحام السر الأكبر في الإنسان وهو العقل للتجسس عليه واستباحة وعيه، من خلال أجهزة تطلع على مكنوناته دون اللجوء إلى الأساليب التقليدية في نزع الاعترافات.
– التحكم في العقل: تُجرى أبحاث حول إمكانية التحكم في العقل، فرغم وجود تجارب في الستينيات للتحكم في بعض السلوكيات الحيوانية من خلال التحكم في دماغها، وتزامنت مع أبحاث أثناء الحرب البادرة حول “غسيل الدماغ” حيث شاع عن الاتحاد السوفيتي أنه متقدم في مجال السيطرة الدماغية على الأشخاص، وظهرت مجموعة من الأفلام الأمريكية تتناول تقنيات سوفيتية وعقاقير تتحكم في إرادة البشر، وربما هذا ما دفع المخابرات الأمريكية للقيام بتجارب وأبحاث مكثفة في هذا المضمار، فجرى تمويل برنامج سري استمر عشرين عاما (1953 حتى 1973) وشاركت فيه ثمانين مؤسسة أمريكية من بينها (44) جامعة، كان الهدف الكبير للمشروع هو التحكم في العقل، من خلال ما سمي بـ”مصل الحقيقة” كي يكشف السجناء عن مكنون أسرارهم، ومحو ذاكرة أي شخص، واستخدام التنويم المغنطيسي للتحكم في تصرفات الإنسان، وتغيير شخصيات البشر عبر استخدام العقاقير، وأُنفقت مئات الملايين من الدولارات على تلك “المشاريع السوداء”، وفشل البنتاجون في تحقيق أهدافه نظرا، لأن عقل الإنسان من الصعب التحكم فيه، وإن حدثت عمليات تحكم فإن أجلها قصير،يزول بانتهاء وسيلة الضغط والإكراه، حتى ولو كانت عقارا.
لكن الغريب أن المخابرات الأمريكية CIA لجأت إلى استخدام وسيلة المخدرات للتحكم في العقل ولكنها لم تنجح أيضا، حيث توصل العلماء إلى فرضية أن الإدمان يؤدي في بعض الحالات إلى ضمور أو موت أجزاء معينة من الدماغ مما يعني فقدان القدرة على التحكم في العقل عند اللجوء إلى المخدرات.
– خادمنا قد يكون قاتلنا: تطرق الكتاب إلى الأبحاث العلمية الهادف إلى إنتاج آلي يحمل خصائص العقل الإنساني، وقادر على الإحساس والانفعال، ويمتلك قدر من العواطف، أو اختصارا محاولة أن يصنع الإنسان إنسانا مماثلا له حتى في الإدراك والإحساس، ورغم أن العلم قطع شوطا كبيرا في هذا الشأن إلا أنه لم يبلغ إلا حركات قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة مقارنة بالإنسان، إلا أنه وقف عاجزا أمام ما اُختص به الإنسان من الإرادة والتفكير والقدرة على اتخاذ القرار دون وساطة من أحد، فالإنسان هو نفحة من روح الله سبحانه، وهي قضية لا يريد تطرف العلم وغروره أن يعترف بها، أو يوقن أن مساحة علمه فيها ضئيلة قليلة، ومحدودة وعاجزة.
ومن هنا فقد يكون العلم الذي هو في الأساس لخدمة الإنسان، من أسباب أزمة الإنسان وليس منقذا له، أو طوق نجاته، ومثل هذا قلقا لبعض العلماء ومخاوف من تحول الجراثيم المهندسة بيولوجيا إلى وحوش، تقضي على البشرية إذا هربت من مختبراتها، فالأخطار التي تطلقها التقنية قد تكون أشد رعبا من الأسلحة النووية، فرغم أن الحكيم سقرط قال قبل أكثر من ألفي عام “أن تعرف نفسك هي بداية الحكمة” فإن الإنسان رغم تلك الفترة الطويلة تعرف على المادة وجهل ذلك الإنسان القابع في داخله.
ويؤكد “كاكو” أن علم الأعصاب الذي هو أحد أهم العلوم لدراسة الدماغ الإنساني مازال بدائيا، يجهل أكثر مما يعلم، وهنا تطرح الفلسفة أسئلتها العميقة على العلم المتباهي بنشوته وانتصاراته، فعقل الإنسان ليس إشارات كهربائية، فهو معجزة مثل الكون العظيم الذي لم تدركه كل مراصد الإنسان، وكما يقول أحد العلماء عن الدماغ الإنساني:”ما هذه التحف المحيرة.. إنه الشيء الأغرب الذي اكتشفناه في الكون ” ومن هنا فإن العلم واتساع مجالاته لا يقلص اندهاشنا بالعقل بل يزيد ذلك الإندهاش، ويجعل سؤالنا حول العقل ليس سؤال التحكم والسيطرة، ولكن أسئلة وجودية تحتك بالمطلق، فهذا الإعجاز العظيم في خلق العقل ورائه إله قدير متعال بديع في خلقه، ولعل آخر جملة ختم بها عالم الفيزياء “كاكو” هي “أننا لا نزال أسياد مصائرنا”.. فتلك الإرادة الطليقة التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان في حمل أمانة التكليف، والتي لن يستطيع العلم مهما أوتي أن ينزعها منه.