اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون أعدى أعداء الإنسان هي نفسه، وأن تكون في الآن ذاته منطلق التغيير والتحرر من وصاية الجسد على الروح. وفي (الزهد الكبير) للبيهقي نقرأ حديثا مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:” أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ” -354-.
وضع كهذا يدفع العاقل للبحث في خواص النفس وخباياها، حتى لا يترك لها الحبل على الغارب فتلقي به إلى التهلكة. لكن ما يلفت النظر أن هذا المبحث لم يشغل من المكتبة الإسلامية سوى حيز ضئيل رغم خطورته. وأغلب الكتابات تناولته ضمن سياق أشمل لا يروي غُلة ظامئ، إلا ما كان من أمر الحكيم الترمذي الذي أبدى جهدا لافتا لإضاءة أعماق النفس البشرية، وتسليط الضوء على ما يجري من شد وجذب بين داعي الشهوة واللذة، ومجاهدة القلب الكاره للعصيان.
ترك أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي ،المشهور بالحكيم، قائمة من المصنفات التي تدل على غزارة تأليفه وسعة علمه، رغم أن عدد تلاميذه لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ويرجح بعض دارسي آثاره أن يكون انشغاله بالمجاهدة وبحث سبل الوصول إلى الله وراء عزوفه عن اتخاذ التلامذة والأتباع، وهو المسعى الذي تنطق به كتاباته عن آفات النفس وسبل رياضتها، وحركة الإنسان عموما في الحياة، مما يحملنا على القول بأنه طبيب نفوس من العيار الثقيل !
ينفذ الحكيم الترمذي إلى أعماق النفس البشرية مستعينا بالآيات والأحاديث الشريفة، والأمثلة والتشبيهات التي تُقرب المعنى، وتصف لكل مريض علته وأسباب الشفاء. ولأن الخطوة الأولى هي معرفة العدو فقد حرص الحكيم على كشف خبايا النفس في محاورة رائعة نقتطف منها ما يلي :
” إنك ذات شهوات، فيك شهوة العز فأنت تهربين من الذل، وفيك شهوة ألوان الطعام فأنت تهربين من البؤس، وفيك شهوة إدراك المنى فأنت تهربين من فوتها. وإنما تضطرين لأنك أٍردت أن يكون رزقك في وقت، وأراد ربك في وقت آخر، واشتهيت أن يكون على صفة، وأراد ربك غير ذلك، وأردت من وجه راحة ،وأراد ربك من وجه تتعبين فيه، وأردت كثيرا، وأراد ربك أقل من ذلك.”
لو تأملنا شكاوى الناس من أحوالهم المعيشية لكان قسط كبير منها راجعا إلى مخالفة النفس للمشيئة الإلهية، ثم اندفاع خلف الشهوات والمعاصي من باب التحدي. فالمرء يُحدث نفسه بحظ من الدنيا فتجد النفس في الحديث طمعا وحلاوة، وتُحدث في صاحبها من الجزع و الحسرة على حطام الدنيا ما يدفعه لتحصيله، ولو من باب الخبائث والشبهات لتسكن نفسه. لذا كان سبيل العاقل والمجاهد قطعُ المنى كي تخمد الشهوات، والانقياد لحكمة ربهم حتى يظهر لهم المسطور في اللوح السابق !
وأما العلاج فيكمن في المجاهدة، وفطم النفس عن العادات واللذات ، ثم الإقبال على الله بالدعاء والحمد و الثناء حتى تألف النفس الذكر وتأنس به. ودليل ذلك قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) الحج-78-، فأمر بمجاهدة لنفس وفطمها عن أخلاق السوء، ولأن الأمر هائل وعظيم فقد وعد بتخليصنا من وباله بقوله عز وجل: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) العنكبوت-96-.
وإذا فطمتَ النفس عن الشهوات وقعت حرارة الفطام على القلب، فزالت عنه أدناس الهوى، وصقلت التوبة من المعاصي ما يعلوه من نكت سوداء كما جاء في الحديث الشريف. وعلامة القلب المصقول أن يصير مرآة يطالع فيها العبدُ بهاءَ الحسنات وقبح السيئات، وعجائب تدبير الخالق. ومتى صفا من الهوى أشرق فيه نور اليقين !
كيف يعصي المؤمن ؟
إن جواب السؤال يرفع اللُبس لدى من يتصدون للموعظة والإرشاد، وذلك حين يُفرطون في لوم وتقريع مرتكبي المعاصي، إلى الحد الذي يُشعر أغلبهم باليأس من صلاح الحال، و يُنفرهم من التماس سبل الإقلاع والتوبة. أما تشخيص الحكيم فيحيل على المعركة الدائرة بين القلب من جهة، والشهوات والهوى والشيطان من جهة أخرى، حين تشرع الجوارح في تنزيل أثر الإيمان. يقول الحكيم :” الشهوة تحرك البدن الساكن وتزعج القلب، والشيطان يُمنيه ويزين له، والهوى يميل به ويقوده، فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان ،والتوحيد ظاهر على لسانه. فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، ومال به الهوى حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعد، فهو موحد بالقلب واللسان، ولكن تغلبه الشهوة وقوتها.” وحُجته في هذا الرأي قوله تعالى: ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) الحجرات-من الآية7-، ومعنى حبب أي جعل أصول الإيمان في حبة القلب، حتى إذا قطع المرء دابر الهوى صفا قلبه واستنار باليقين، وصار كف الذهب عنده ككف التراب كما روي عن عيسى عليه السلام !
يُنبه الحكيم إلى أن إلحاحه على ترك الشهوات، والتقليل من الطيبات لا يعني البتة تحريم ما أحل الله، وإنما تأديب النفس ورياضتها حتى لا تبالغ في الميل إلى الزينة والطيبات، فتقع في المحظور كالرياء والمباهاة، وتضييع الشكر وأداء الواجبات، وربما خلط الحلال بالحرام والوقوع في الشبهات. وهو احتجاج صائب يستمد وجاهته من القراءة المغلوطة لمعنى قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) المائدة-87- فمضمون الآية لا يزكي الانغماس في الطيبات إلى الحد الذي يجعل المرء حبيس لذاته، ويُخمد نور القلب الذي من علاماته : التجافي عن دار الغرور !
يؤمن الحكيم الترمذي بأن فقه النفس الإنسانية، والإلمام بأخص خصائصها شرط جوهري للتحلي بمكارم الأخلاق. ورياضة النفس لا تقل أهمية عن سائر الشعائر والعبادات لما تحققه من سكينة واطمئنان، وتحرر من مخاوف الفقر والجوع ونقص الأموال والثمرات، لأن قلب المؤمن الموقن مطمئن إلى الرزق.. متعلق بالرزاق !