في الجولات الممتدة بين الحق والباطل، يكون من الضروري الانتباه لما يتصل بذلك من مفاهيم وتصورات؛ لأن هذه المفاهيم والتصورات هي جزء من المعركة نفسها، بما يجري عليها من تزييف أو تحريف. وفي هذا المقال نتوقف مع بعض النقاط المهمة في مفاهيم النصر والهزيمة.
1) الأيام دول:
وأول ما يتصل بمفاهيم النصر والهزيمة، أن ندرك أن الأيام دُوَل، لا تستقيم لأحد على حالة واحدة من النصر أو الهزيمة؛ وإنما نشهد انتصارًا تارة، ونصاب بغيره تارة أخرى؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).
وهذه المداولة بين الحق والباطل تعطي الأمل لأصحاب الحق في أن يستعيدوا عافيتهم إذا كانت عليهم الغلبة.. كما تدفعهم إلى الحذر واليقظة إذا كانت لهم الجولة.
وسُنّة المداولة تستدعي سُننًا وقيما أخرى؛ مثل البذل، والتضحية، والصبر والمصابرة، والمرابطة، والمدافعة.
2) النصر من عند الله:
المؤمن يدرك أن النصر- شأن أي نعمة أخرى- إنما هو من الله تعالى؛ صاحب الفضل والتفضل؛ ومن ثم يسعى المؤمن إلى الاستعانة بربه تعالى، والركون إلى جنبه، وعدم الاغترار بالقوة المادية مهما بلغت، ولا بالأعداد مهما كثرت؛ بل يدرك أن هذا لا يغني عنه شيئًا إن حُرم التوفيق، وزَينت له نفسُه ما بيده من قوة.
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 10).
أي: لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم، أيها المؤمنون، مددًا لكم؛ إلا بشارة لكم، تبشرِّكم بنصر الله إياكم على أعدائكم.. وَلِتَسْكُنَ قلوبُكم بمجيئها إليكم، وتوقن بنصرة الله لكم.. وما تُنصرون على عدوكم، أيها المؤمنون، إلا أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بِنَصْرِ الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه([1]).
3) النفس ميدان أول:
فالنفس هي ميداننا الأول، إن تغلبنا عليها، بالتهذيب والتزكية، كان من السهل أن نستجمع عوامل النصر الأخرى.. فإنّ مَن ضعف أمام نفسه، سيكون أكثر ضعفًا أمام عدوه..
والمؤمن لا يخوض المعركة بالأسباب المادية فحسب، وإنما باستعداده النفسي المبني على الإيمان بالله تعالى والتحلي بمكارم الأخلاق.
ومن تمام هذا المعنى أيضًا، أن المسلم في معركة دائمة مع نفسه، يغالبها وتغالبه، حتى تستقيم له على أمر الله تعالى، وينتقل من النفس اللوامة إلى المطمئنة..
4) الأسباب بقدر الاستطاعة:
من فضل الله على المؤمنين أنهم طالبهم باتخاذ الأسباب وفق استطاعتهم، ولم يحملهم فوق ذلك؛ فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60).
جاء في تفسير الرازي: “اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يُشَرِّدَ مَنْ صَدَرَ منه نقضُ العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض؛ أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار. قيل: إنه لما اتفق أصحابُ النبي ﷺ في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة؛ أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله، وأن يعدوا للكفار ما يُمْكِنُهُمْ من آلة وعدة وقوة؛ والمراد بالقوة ههنا: ما يكون سببا لحصول القوة([2]).
5) وحدة الصف:
من أهم ما يلزم لتحصيل النصر، وحدة الصف؛ فإن ضعف الصف يسهّل للعدو مهمته، ويُضعف النفوس المجتمعة على الحق، ويَبذر بينها بذرة الشقاق التي تكبر حتى تكون خرقًا.
ولهذا أمرنا الله تعالى بهذه الوحدة، ونهانا عما يؤدي إلى الوهن والتشتت، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف: 4)، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46).
فتمزق الصف يصيب الأمة بـ”الغثائية”، التي حذرنا منها الحديث الشريف، والتي لا تنفع معها وفرة في القوة المادية، ولا كثرة في القوة العددية!!
عن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «لَا، بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَتَعْرِفُنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنُ». قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (رواه أحمد وأبو داود).
6) النفس الطويل:
معارك الحق والباطل تحتاج للنفس الطويل، لا ينفع معها ذوو النفس القصير؛ الذين يريدون الغلبة في يوم وليلة، أو في جولة واحدة.. إنما هي مغالبة مستمرة، وقد تستمر الجولة الواحدة فترات طويلة أو تأخذ أشكالاً عديدة..
ولحكمةٍ ما، تأخر فرض الجهاد على المسلمين، وقد كانوا في شوقٍ لمدافعة ما يقع عليهم من أذى؛ حتى تستكمل النفوس بناءها الإيماني وتستعد له خير استعداد. وكان أول ما نزل في ذلك قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39).
قال العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ([3]).
7) الحذر واليقظة:
فإن العدو لا ينام، ويتخذ كل الطرق، ويتحين الفرصة التي يراها مناسبة له. وإذا كان الله تعالى قد نهانا عن الغفلة في أثناء المعركة؛ فإن الحذر من ذلك قبلها، أوجب وآكد؛ قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} (النساء: 102).
ففي هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين، عساهم يجدون منفذًا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها؛ فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم؛ فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة([4]).
8) عدم استعجال المعارك:
فلا ينبغي استعجال المعارك قبل أوانها، وقبل الاستعداد التام لها؛ فإن المعارك ذات بأس وشدة وفتنة؛ واستعجالها قد يأتي بنتائج عكسية، ويمكِّن للباطل.. ولكن إذا فُرضت المعركة فلا مفر من مواجهتها، والثبات أمامها، وتجديد الثقة في الله تعالى ناصر المستضعفين والمتوكلين..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ؛ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ، وَإِنْ أَجْلَبُوا وَصَاحُوا فَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ»([5]).
وإِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَّنِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ وَالاتْكَالِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْعَدُوِّ وَكُلُّ ذَلِكَ يُبَايِنُ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذَ بِالْحَزْمِ وَقِيلَ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوْ حُصُولِ الضَّرَرِ وَإِلَّا فَالْقِتَالُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَعْقِيبُ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ([6]).
9) النصر صبر ساعة:
نعم، فالصبر مطلوب في أمور الحياة كلها، وهو عند المعارك أشد طلبًا؛ لما فيها من شدة ومشقة؛ فالصبر فيها أوجب والثبات آكد. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45).
أي إذا لقيتم فئة من المشركين فاثبتوا. والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة، ولهذا أحالهم على الذكر فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}([7]).
10) الواجب عند نهاية المعركة:
في إدراك مفاهيم النصر والهزيمة هناك مسلمة أن نتيجة المعركة إما أن تكون نصرًا أو هزيمة.. والمسلم في كل أحواله يلتزم ما أمر الله به ولا يأتي ما نهى الله عنه.. فإن كان النصر؛ فالواجب الشكرُ، وردُّ الأمر كله لله تعالى.. وإن كانت الأخرى؛ فالواجب الصبرُ ومحاسبة النفس، وعدم الجزع والتهرب من المسئولية.
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 165).
بهذه النقاط العشرة تتضح لنا جوانب مهمة ومفاهيم أساسية في شروط النصر وموجبات الهزيمة.. مما علينا أن ندركه جيدًا، ونجعله موضعَ تأملٍ واعتبارٍ وتطبيق..