حاول أ. أحميدة النيفر في أحد مقالاته وقراءاته لبعض المفاهيم القرآنية أن يتطرق لمعنى العدل والإحسان في مثل قوله تعالى (نَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مصرحا ومعتمدا على المنهج التاريخي التركيبي الذي يؤكد من شأنه ضرورة بحث نصوص القرآن الكريم المؤسسة من جديد ضمن الدائرة الفكرية العالمية، بما يجعل مباشرة النص الديني وفق قواعد الحركة العقلية الإنسانية، لتكون قابلة للزيادة والنمو. وفي سعيه لبناء المعنى المفاهيمي لهذين المصطلحين بين قصور المنهج الموروث في التفسير، وادعى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن والدعوة إلى التجديد.
بدأ النيفر في غاية مقاله هذا بتحديد منظوره بالمنهج التاريخي التركيبي للقراءة المفاهيمية، فأثبت ان التجديد المطلوب من المسلم أن يبحث نصوص القرآن المؤسسة من جديد ضمن الدائرة الفكرية العالمية مع التركيز على أمرين مهمين:
أ – العالم إشارة إلى حياة قابلة للزيادة والنمو، حيث إن حركته تبنى في صيرورة ذات ممكنات متنوعة قابلة للتحقيق.
ب – الإنسان فاعل يكسب الزمن صفته التاريخية الحية، لأنه هو من يدرك المستويات المتباينة للزمن، ومن يتفاعل مع أبعاد ذاته الإنسانية.
وبناء على هذا الحد النظري اختصر منهج المفسرين الذي يباين ما ذكر في خصوص مفهومي العدل والإحسان، بدءا بالطبري وانتهاء بابن عاشور والطباطبائي، مثل الطبري حين فسر العدل والإحسان في آية النحل بقوله: “إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحقّ الحمد عليها، كان جهلا بنا حمدها وعبادتها، وهي لا تنعِم فتشكر، ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله”، فاعتبر الطبري العدل المأمور به: شهادة أن لا إله إلا الله وقوله والإحسان، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدّة والرخاء، والمَكْرَه والمَنْشَط، وذلك هو أداء فرائضه.
قارن أحميدة النيفر هذا البيان بما ذكره الزمخشري والرازي وكلهم على اختلاف عصورهم وتباعد في القرون التي عاشوا فيها فإن تأويلهم للآية لا يختلف، بل قرر النيفر أن هؤلاء المفسرين اقتصروا “على المعنى الحرفي للنص والاكتفاء في التفسير باللغة والأثر بما يجعل العدل والإحسان بالتكليف فرضا ونفلا، وأن قيمتي العدل والإحسان لا تنفصلان عن مجالي العقيدة والشريعة”.
وراق للنيفر أن هذه النماذج التفسيرية التي خضعت للاختبار تلتقي في خاصية واحدة وهي التفسير التجزيئيي الذي يشرح مفهومي العدل والإحسان بناء على ظاهر سياق الآية – دلالة الاستعمال اللغوي – والاستناد إلى الأحاديث والآثار – وتنزيل الدلالة ضمن المقتضى الشرعي أو العقائدي. ويحسب أن المنهج المناسب للتعامل مع المفاهيم كهذه تجاوز هذه المعطيات التي اعتمدها المفسرون في أغلب كتبهم، واعتماد آلية تتيح المجال لتدبر القرآن وصرف النظر في معانيه بصورة متكاملة حددها فيما يأتي:
1- البحث عما تفيده المفردة القرآنية ضمن الآية او مجموع الآيات وبين استعمالاتها في السور والسياقات القرآنية الأخرى
2 – فهم طبيعة النص القرآني ووحدته الناظمة واستقلاليته وهويته الدلالية.
وتطبيقا لهذا المنهج فيما يخص مفهومي العدل والإحسان تتبع: أولا – البنية القرآنية وخصوصيتها المعجمية لكلا المفهومين من حيث الاستعمال بصيغ الإفراد والتركيب، والاسمية أو الفعلية. وثانيا – نسبة أو كمية تردد هذين المفهومين في القرآن الكريم، حيث يفوق عدد الإحسان في القرآن عنصر العدل الذي يعد أقل حضورا وتواترا في النص القرآني بشكل ملحوظ.
وتوصل في الترابط بين هذين المفهومين إلى النتائج الآتية:
أ – أن قيمة “العدل” المستعملة قرآنيا في العلاقة بهذا المعطى الكمي موصولة بالغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان، وهي إقامة العدل.
ب – نجم عن هذا الأساس أن المقصد القرآني شمل المعنى العام للعدل لكنه طلب في أمور تفصيلية مثل: قضايا الحكم، ومع النفس، وفي الأهل والولد، والتقييم والشهادة والعلاقات بين الناس.
جـ – تجسد هذا الحرص في التراكيب الفعلية العديدة وبصيغ تأكيدية قطعية الثبوت مثل استعمال فعل الأمر في قوله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى) وغير ذلك.
د – تبين أن الاستعمال القرىني وسع دلالة العدل بصورة لافتة بما جعلها متجاوزا معناها اللغوي الدال على المساواة وأداء الحقوق واسترجاع المظالم. فما يفيده المعجم القرآني في الحقل الدلالي الواسع الذي يقارب 300 آية لتحري العدل والقسط وضرورة تجنب الظلم، أننا أمام مقصد شامل لمجالات إجرائية كثيرة ودلالات واسعة يتصل فيها عالم الغيب بعالم الشهادة، وترتبط فيها حقوق الله بحقوق الإنسان، وباقي المخلوقات، وتتشعب بحيث تعم جميع المجالات الاعتقادية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي النهاية يحاول النيفر بهذه المحاولة نفي التفاضل بين المفهومين العدل والإحسان من خلال العناية بالجانب القيمي المؤسس، حيث اعتبر العلاقة الدقيقة بين الإحسان والعدل، علاقة بين القيمة الأخلاقية المؤسسة والمفهوم الإجرائي، فالإحسان قيمة مؤسسة والعدل مفهوم إجرائي مطلوب بعينه من الأفراد والمجتمع. يقول النيفر (لا يبقى مسوغ للقول إن الإحسان فوق العدل لأن هذا يقتضي إعطاء ما عليه، وأخذ أقل مما له بينما الإحسان إعطاء أكثر مما عليه وأخذ أقل مما له .. هذه الاعتبارات التي يتداولها المفسرون تفوت علاقة الترابط الجدلي بين العدل والإحسان وقصدية الترتيب الذي بينهما، وأن الأول شرط إجرائي للثاني الذي يمثل قيمة أخلاقية تضمن تحقق الأول وترسيخه).