نتناول في هذه المقالة الموجزة بعض مقاصد الباحث المسلم التي يسعى إلى تحقيقها في واقع بحثه العلمي، فالسعي في الإسلام ليس لمجرد السعي، وإنما يرتبط بمقاصد تحقيق غاية الحق في الخلق، والبحث العلمي ليس كومة من الأوراق ينجزها الباحث المسلم، أو شهادات علمية يحقق بها طموحه الشخصي المباح، ولكنه رسالة تدخل ضمن رسالة الاستخلاف وواجباته الأخلاقية ووظائفه العمرانية. لذلك جاءت هذه المقاصد نفتح فيها باب الحوار حول مقاصدية الباحث المسلم في درسه العلمي والمعرفي في ضوء الحالة الحاضرة للأمة والمتغيرات من حولها.

(1)

بين التنظير والمجاهدة

إن مقصد “التنظير الإسلامي” ليس مقصد الفيلسوف الحكيم، وإنما هو مقصد المجاهد الرابض على ثغرة من ثغور الأمة، بعد أن تضاعفت تلك الثغور، وتحولت إلى ثغرات في الهيئة والأساس.[1] وهذا يعني أن يحدد الباحث المسلم مكانه في حركة الأمة العلمية والمعرفية، ويشعر في ذلك أنه يقوم بدور المجاهد العلمي الذي يطيل التأمل في مكانه ومكانته، ومتطلبات هذا الدور ومؤهلاته التي لا يمكن أن يؤدى بغيرها، لأن غياب التأهيل عن الدور خلل ومعصية يأثم به وعليه الباحث المسلم.

(2)

الوسط الحق” بين “الاستلاب” و “الغرور العلمي”

من الآثار السلبية لحالة التراجع الحضاري الذي تشهده الأمة، أن وقع الباحث المسلم بين نقيضين، نقيض الهروب من ذاته والارتماء في ذات الغربي في حالة من “التوحد المرضي” في أدوات بحثه وموقفه القيمي وتعميماته واستنتاجاته –التي انتقدها الغربي لاحقًا وتبرأ منها – مما حول الباحث المسلم إلى “مسخ” أو بمعنى الحديث “الشبيه” (من تشبه بقوم..)، والنقيض الثاني هو التعالي والغرور الذي أصاب الطرف الآخر من الباحثين المسلمين بحسبه أنه يمتلك ما هو أعلى من النماذج المعرفية الوضعية -وهو الوحي وظلاله في الفكر التراثي الذي ورثه عن الأسلاف- حتى ولو لم يكن قادرًا على تفعيلها وتقديم المعالجات للظواهر الواقعية القائمة، لأنه ببساطة يفتقد القدرة على الاجتهاد وتطوير الأدوات اللازمة للتعامل مع تلك المصادر، ومن ثم فهو في حالة “كَنز” – لهذه المصادر بسبب تغييبه لها لعدم قدرته على تطويرها- يحاسب عليه أمام الله، وهو مع ذلك يرفض كل المناهج والأدوات القائمة من حيث المبدأ، ولا يتطلع إلى إدراكها ودرسها لإخراج الطيب منها ونبذ الخبيث، وذلك لأنه يسيطر عليه حالة من التعالي والغرور  وهو بذلك يخالف النهج القرآني الذي يقوم على الانفتاح الراشد على دليل المخالفة “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ” [النمل/64] و” تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ” [آل عمران/64] والرغبة والعزم في الوصول إلى الحقيقة أينما كانت وفي أي أرض، لو التزم الباحث المسلم مبدئية “التواضع” العلمي لاستطاع أن يطَّلع على كل ما هو جديد في خارج نموذجه المعرفي، وفي ذات الوقت العمل الاجتهادي في مصادره للوقوف على ما يمكن أن يُقَّوَم (من التقويم) ما أنتجه غيره، ويحقق التطوير اللازم عبر عملية الاجتهاد الداخلي والانفتاح الخارجي على العلوم والمعارف والمناهج، وبذلك يتجاوز هذه الذميمة “التعالي والغرور” والجمود الداخلي والتوقف عن العطاء بدعوى “الاستغناء”.

(3)

بناء خارطة الضروريات

ينبغي أن يضع الباحث المسلم خارطة لمقاصده في طريقه البحثي والفكري، وأهم ما تتضمنه هذه الخارطة: ما يتعلق بالضروريات التي يتمركز حولها النشاط المعرفي للباحث وإنتاجه وعمله الأكاديمي وبنائه الفكري، وهذه الضروريات يرتبط بتحديدها واجب حضاري مهم للباحث وهو (البحث عن المركز الحضاري للإسلام) في منتوجه الفكري ونشاطه المعرفي، فلا يمكن للباحث المسلم أن يبذل جهده وماله ووقته في أفكار دائرية أحاطتنا بها انعكاسات المشروع التغريبي والدولة القطرية، فأفقدتنا الرؤية في مجال البحث، وأصبحت بحوثنا نسخًا مكررة، منبتة الصلة بالواقع والمستقبل والأمة.

إن مركزية الأمة أو المركز الحضاري للإسلام أهم المحددات في بناء الضروريات البحثية، وهنا فعلى الباحث المسلم أن يقوم باستقراء حالة هذا المركز ووضعه الراهن، وإشكالاته، وعوامل تشكلاته التاريخية والتراثية، وقراءة الأحداث والمستجدات المعرفية حول هذا المركز من خلال الاستقراء الواعي للمكان والمكانة له. وفي ضوء ما يصل إليه عبر نظرته الثاقبة، وعبر ما وصل إليه أقرانه في ذات الطريق، فإن عليه أن يحدد دوره المناط به والذي يصرف إليه قلمه وجهده ووقته وماله وإنجازاته البحثية.

(4)

المنطق العملي

أنتج العقل المسلم على مدار ما يزيد على قرنين من الزمان أفكارًا متعددة ومتنورة في مجالات الإصلاح المعرفي والسياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي…مما حقق تراكمًا معرفيًا ملحوظًا وكافيًا في كثير من المجالات ، والمقصد الذي نشير إليه هنا هو” المنطق العملي” الذي يجب أن يهيمن على “قلم” و”قرطاس” الباحث، ونقصد به أن تكون لدى الباحث المسلم القدرة على” تحويل” و”تهيئة” ما تم إنتاجه من أفكار ومن تراكم معرفي في مجال تخصصه –في حركة الإصلاح المعرفي في الأمة- إلى برامج عملية جاهزة للتطبيق لمؤسسات الأمة، أي وضع أفكار الإصلاح موضع العمل التنفيذي..وتدشين خطط لتضمين هذه الأفكار في السياسات واللوائح والقوانين للنظم الإسلامية المعاصرة.

والباحث المسلم في هذه القصدية يجب أن يشغل جهده الذهني والبحثي في هذا الجانب التطبيقي العملي، وذلك –أيضًا- يرتبط بمعيارين لدى حركته ونشاطه الفكري وهما: الانطلاق من داخل الأطر المرجعية الإسلامية. ومراعاة فقه الواقع للأمة ( التراث والحاضر والمستقبل).

(5)

 التكوين الفكري

في التكوين الفكري ثلاثة مكونات أساسية يقوم عليها تكوين الباحث المعاصر، أولها: مكون الوحي، وفي هذا المكون ثلاثة خطوط رئيسة ترسم جانبًا بل جوهرًا رئيسًا للتكوين الفكري للباحث، الخط الأول يتمثل في إعادة الاعتبار للوحي ذاته مرجعية رئيسة في مصادر المعرفة، وهذا لا يعني تجاوز الواقع أو إهماله، ولكنه يعني استعادة المسقط الأفقي للنظام المعرفي الإسلامي في الذهنية البحثية ليستمد منها أحكام القيمة وضوابط الحركة في الواقع، وبعبارة أخرى انتظام ذهنية الباحث وفق مرجعية القراءتين (قراءة الوحي وقراءة الكون) وتحقيق التوازن بينهما وفقًا لمرجعية الوحي العادلة التي تقوم على الحق والهدى، والخط الثاني هو تجاوز الثنائيات التي أوجدها ذلك الاختراق في العقل المسلم بين: الدين والدنيا، الفرد والجماعة، والأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد، والمدني والديني، والعقلي والحسي،..إلى ما لانهاية مما حفل به النظام المعرفي المعاصر -للحداثة وما بعدها والعولمة وما بعدها- الذي قام على أفكار التناقض والصراع الكوني واللانهائية الكونية، إن انتظام الرؤية الكلية التوحيدية عند الباحث تمكنه من هذا التجاوز لينظر إلى الكون وظواهره باعتبارهم جملة واحدة وإن تعددت تلك الظواهر، أما الخط الثالث فيسعى من خلال هذه الاستعادة مكانة الوحي في صدارة مصادر التكوين هو تحقيق مبدئية “التكاملية” بين الغيب وعالم الشهادة والحضور بما يمَّكن الباحث من طرح تفسيرات تتجاوز الخرق المعرفي والنفسي والاجتماعي الذي أحدثته الازدواجية المعرفية في الذهنية المسلمة عبر قرنين من الزمان..

والمكون الثاني: التخصص العلمي في فروع المعرفة المعاصرة وتطوراتها، فينبغي للباحث أن يصل إلى الاستيعاب الكامل للقواعد والفلسفات والتوجهات الفكرية التي تحكم مجال تخصصه البحثي، ولا يغيب بالتفاصيل عن الأبعاد المعرفية الكامنة وراء هذه النظريات. أما المكون الثالث: فهو الشق المنهجي، فلا علم بلا منهج، والتطورات المنهجية المعاصرة رغم تحيزاتها الفلسفية إلا أنها أضافت كثيرًا لحركة التطور المعرفي الإنساني، وبناء مناهج جديدة لا يمكن دون تجاوز المنهجيات القائمة بالنقد والتحليل والمناقشة.

(6)

الشهود قبل الشهادة

إن السعي المعرفيِّ للباحث المسلم هو جزء من سعيه العام في هذه الحياة، الذي يتجه به إلى الله تعالى { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) [النجم/39]، بيد أن حركة الباحث المسلم ونشاطه تزداد قيمتها ودرجتها بما يمتلك “القلم” و”القرطاس” من مكانةٍ إلهية، وهما أحد أدوات الشهود للأمة {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة/143]، كما أن وجدان الباحث المسلم ينبغي أن يمتلأ بأن حقيقة ما يقوم به هو تمظهر لاعتقاده الديني “التوحيد” في الكون الذي يقيم به الشهود على الناس..وأن هذا الشهود غائب لغياب هذا التمظهر وهذا التجسد للأمة، وأن “العلم” الذي يتمحور حوله نشاطه الذهني والعملي هو الذي يصعد بالأمة في سلم هذا الشهود، فلا يمكن للماء في الأماكن المنخفضة أن يصعد إلى الأرض العالية مهما كان ظمؤها…إذ لابد أن يتساوى الماء مع سطح الأرض العطشى أو يعلو عليها، ومن ثم فإن رغبة ووجدان الباحث في السمو بتوحيده وتبليغ رسالته في الشهود هي أولى في مركزية نشاطه من الحصول على (شهادة –درجة) تلك التي اختزنتها الأنظمة التعليمية العربية وتحايلت عليها الأوضاع الاجتماعية والثقافية إلى حد البغي والعدوان.

هذه بعض مقاصد الباحث المسلم، وهي دعوة نفتح فيها الحوار الجاد لما فيه صالح الأمة.

 


[1]  طه جابر العلواني-منى أبو الفضل/نحو إعادة بناء علوم الأمة.