عرف المسلمون “الاجتهاد” منذ عصر الرسالة وفي حضور الوحي وقد أقره الرسول ﷺ في حياته[1]، ودعا إليه باعتباره – أي الاجتهاد – يماثل حركة الإسلام ذاته، ويحقق مقاصده العليا في الخلق والعمران والهدي من ناحية، ويلائم حركة الكون وسنته التي تخضع لمنطق التغير والتطور والتجدد من ناحية أخرى. وتاريخيًا: دوَّن المسلمون ما عُرف بعلم الفقه وأصوله لرصد وتسجيل ما يتعلق بعملية “الاجتهاد” وأيضًا المساهمة في تقنينه ووضع قواعد للسير فيه والقيام به.
ولعل حركة الاجتهاد الأكثر تأثيرًا في حياة الإنسانية كانت حركة الإنسان المسلم ذاته نحو العمران، عمران هذا الكون وهدايته إلى الحق، هذه الحركة التي أقام بها المسلم حضارة استمرت ما يقرب من عشرة قرون كاملة هي “الحضارة الإسلامية” اتسمت بالاستقامة والعدل. وعندما توقفت حركة المسلم في الحياة توقف معها كل شئ، توقفت حركة الاجتهاد، وتوقف العطاء الحضاري لهذه الأمة، ولم تجدي محاولات الإنقاذ الفردية لهذا التوقف كالتي قام بها أمثال إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت790هـ)، وعبدالرحمن بن خلدون (ت 808هـ) لأن العقل العام المسلم أصيب بالجمود ولم يتوافق مع تلك الحركات التجديدية الإنقاذية في الأمة.
ومع بوادر عصر النهضة الأوروبية والذي تلاه سقوط الخلافة الإسلامية ثم الاحتلال العسكري للعالم الإسلامي انتبه العقل المسلم من غفوته، وطرح سؤال الاجتهاد والتجديد مرة أخرى باعتبار هذا السؤال هو “طوق” النجاة لهذه الأمة وسبيل إخراجها من الجمود والتقليد، وفي ذات الوقت لمقاومة المشروع التغريبي الاستعماري الذي صاحب الاستعمار العسكري.
وفي ضوء ذلك تحرك العقل المسلم حركتين: حركة داخلية لإزالة ما علق به من عوامل أدت إلى تبديده وتعطيله، ومعالجة إصاباته وأمراضه الفكرية والمعرفية والعقدية، وحركة خارجية لمقاومة المشروع التغريبي الذي هدف إلى استبعاد الإسلام من النشاط العقلي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الإسلامي.وقد عرف الاجتهاد اصطلاحًا بأنه: “استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي”.([2]) أو هو “بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية”.([3])
والاجتهاد كعملية: هو ممارسة يخوضها المتخصصين في دائرتين: دائرة الأدلة الشرعية ودائرة الحياة والواقع بما يزخر به من مستجدات وحوادث…هذا مضافًا إلى لحاظ التحديات والمنازلات الخطيرة التي تأتي من خارج المحور الإسلامي والتي شكلت ضغوطًا ملحة وعديدة في المجالات التي تنتظر كلمة الفقه وأطروحاته.([4])
هذا فيما يتعلق بمفهوم “الاجتهاد” في نسخته المعروفة في تراثنا الإسلامي، والذي يعني في إجماله: النظر في الأدلة الشرعية من أجل التوصل إلى الأحكام الشرعية غير المنصوص عليها، وهذا يأتي عبر عملية يقوم بها متخصص تتوافر فيهم عدد من الشروط أُطلق عليها في التراث الإسلامي “شروط المجتهد”.
ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن “الاجتهاد” كان مبدأ عامًا لحركة المسلم، ارتبط بصعوده الحضاري، وبتأدية وظيفته الاستخلافية التي آمن بها ووعيها على الأرض، وفهم مساراتها وسننها، فكان تفتق ذهنه في العلوم والمعارف، والنظر والتفقه والتدبر الكوني والإنساني، حتى استطاع بناء حضاري إنساني جديد منطلقًا فيه من فهمه لوظيفته الكونية وهي تأدية الأمانة وأداء الرسالة.
واقع فكرة الاجتهاد في العقل الجمعي
هذه النظرة – السابقة – للاجتهاد بدأت تضييق بتوافر عوامل الهبوط الحضاري للأمة حتى انحصر في إصدار الفتوى وعلى رأي الأقدمين الذين أصدروها في ظروف مغيرة لظروف عصرنا وربما مغايرة المكان أيضًا، ومن هنا ارتبط مفهوم الاجتهاد في حركة الإصلاح المعرفي في العصر الحديث بمفهوم آخر هو ” الإحياء” أي “إحياء الاجتهاد” الذي توقف وتعطل عبر عوامل ومعيقات داخلية وخارجية، فأدى إلى تعطل حركة الإنسان المسلم في الكون، فكانت الدعوات المعاصرة في الأمة إلى إحياء الاجتهاد كشرط أساسي لنهضة المسلمين، أو كما عبر عنه روجيه جارودي (1917-2012 ) “إن الاجتهاد هو الشرط الأساس للنهضة”.([5])
وانحصر “الاجتهاد” في نسخته المعاصرة، وتعلق بميدان الفقه كما تعلق التجديد بميدان الفكر، وما زالت قضية الاجتهاد والتجديد مطروحة من قِبَل المفكرين والمصلحين وتتمحور بصفة عامة حول: التعريف والماهية، والحاجة والضرورة، وشروط المجتهد، والمجتَهَد فيه.
[1] عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله ﷺ، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ﷺ ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله…وتأتي الشواهد المختلفة في سيرته- ﷺ- لتأكيد هذا المعنى ..ومنها مشاورات أصحابه في المعارك والغزوات, ومراجعات بعض نساؤه وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره هنا…وكذلك ما ثبت من عمل الخلفاء الراشدين من بعده وعمل الأمة وسيرة عقلائها وتأسيس اتجاهات فكرية وفقهية كان مصدرها أصالة فكرة الاجتهاد في الإسلام.
([2]) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، مرجع سابق، ص142.
([3]) عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه، القاهرة، دار القلم، ط8، د.ت، ص216 .
([4]) خالد الغفوري: “الاجتهاد والمعاصرة”، مجلة فقه أهل البيت، العدد (34)، السنة التاسعة، 2004، ص7.
([5]) روجيه جارودي: الإسلام والقرن الواحد والعشرون شروط نهضة المسلمين، ترجمة كمال جاد الله، القاهرة، دار الجيل للكتب والنشر 1997م، ص 39.