يلتزم المسلمون في كل أنحاء العالم التزاماً دينياً بالاستماع لخطبة الجمعة، وهذا يعني أن هنالك رسالة يجب أن يتلقاها المسلمون كل أسبوع، وهذه ميّزة لا يشارك الإسلام أو ينافسه فيها أحد، وهي فرصة كبيرة ومتجددة لتشكيل وعي عام بكل مسألة من مسائل الدين، أو حدث من أحداث الدنيا، وهي كذلك مسؤولية كبيرة لا يتحملها الخطيب وحده، بل الدولة والمجتمع وعامّة الناس.
إن القصة لا تبدأ بما يسمعه الناس من على المنابر، بل تلك هي النهاية والمخرج الذي يعبّر عن سلسلة من الاستعدادات والإجراءات التي لا يمثّل الخطيب إلا جزءاً من أجزائها وحلقة من حلقاتها.
إن الخطيب الذي يحمل رسالة الإسلام الأسبوعية لمجتمعه ينبغي أن يُعدّ بطريقة تتناسب مع هذه المهمّة، وهذا يقودنا إلى فحص محاضن التعليم الديني، وإعادة النظر في البرامج والمناهج والدورات التدريبية والتطويرية، وأضرب مثالاً سريعاً من واقعنا المعاصر، فمناهج التعليم الديني في المدارس والمعاهد والجامعات لا تكاد تجد فيها أثراً لفقه العمل السياسي مثلاً، لكن الخرّيج فور صعوده على المنبر يرى نفسه مضطراً لأن يتطرّق للأحداث السياسية التي تعصف بالأمة، والمصلّون بكل تأكيد لا يريدون آراءه وانطباعاته الشخصية، وهنا يبدأ الارتباك، حتى أنك في بعض الأحيان تتمنى لو أن الخطيب اكتفى بالوعظ الأخروي والتذكير ببعض الأحكام الفقهية وفضائل الأعمال، لعله يحفظ للمنبر هيبته أو شيئاً منها.
إن شكوى الخطباء من تطفّل بعض الناس وتدخلاتهم في مسائل الشريعة دون علم ولا وعي حتى بأوليّات الشريعة ومصطلحاتها قد يقع فيه الخطباء أنفسهم حينما يحاولون التدخل في المجالات الأخرى كعلوم السياسة والاقتصاد والطب والفلك، دون أن يكون لهم إلمام ولو بأصولها ومبادئها، أما إذا كان الناس بحاجة عملية لموقف ما ويتطلعون إلى المنبر لمساعدتهم في اتخاذ هذا الموقف، كما هو الحال مثلاً في العراق وسوريا، حيث ممكن أن تتحول الخطبة بالفعل إلى موقف وحركة وصيغة عمل، فإننا سنكون أمام احتمالات ومجازفات كبيرة وخطيرة.
إن الخطيب الذي يعطي لنفسه صلاحية التدخّل في كل شأن من شؤون الحياة من دون إعداد كافٍ لا شك أنه يعرّض الإسلام نفسه لأزمة أو أزمات مختلفة حتى في محيطه الأقرب، وقد حصل أن خرج أستاذ جامعي متخصص في العلوم السياسية من المسجد وترك صلاة الجمعة في ذلك اليوم لما سمعه من تنظيرات سياسية لا محل لها من السياسة ولا من الدين، وقد حدّثني هو بذلك، والأطباء كذلك يشكون من بعض الخطباء حينما يتحدّثون عن “الطب النبوي” ويؤكّدون: “لقد ثبت طبيّاً”، أو يتحدّثون عن الهلال فيقولون: “لقد ثبت فلكيّاً”، ومعلومات الشيخ ربما لا تتعدى صفحته على “الواتس آب” أو “الفيس بوك”! ولقد رأيت أحد المشايخ يتحدث بقوّة ليثبت أن الأرض ليست كروية، وأنها لا تدور، وشيخاً آخر يتحدّث عن الأضرار الصحية على “مبايض المرأة” التي تقود السيارة، ولقد رأيت في بعض مساجد أوروبا من يغرس في المصلين الكراهية للمجتمع الذي يعيشون فيه، بفهم مشوّه لعقيدة الولاء والبراء، ودون مراعاة للمشهد الكلي بأبعاده ومآلاته.
إن الخطيب لا يعبّر عن ثقافته الشخصية وطريقة إعداده وتكوينه فقط، وإنما يعبّر أيضاً عن المؤسسة التي يعمل فيها، وأقصد هنا الجهات الرسمية والمؤسسات الدينية المكلفة بتنظيم هذا العمل ومراقبته والإشراف عليه، كما أنه يعبّر عن ثقافة المجتمع ونظرته للدين والحياة.
إن اختلاف الخطباء في آرائهم السياسية، وحتى الثقافية والاجتماعية، هو انعكاس لاختلاف دولهم وحكوماتهم، من هنا أصبحت منابر الإسلام ليست بالضرورة تمثّل الإسلام والرؤية الإسلامية، وهذه الحالة تضيق وتتسع بحسب هامش الحرية الذي يميّز هذه الدولة عن تلك، أو يميّز هذه المؤسسة عن مثيلاتها.
أذكر بهذا الصدد أن وزيراً كان يهدد كل خطيب لا يُصلي في مسجده على النبي بعد الأذان، فهذا يكفي لاتهامه بالوهابية! وربما يكون العكس في البلاد الأخرى، أما توزيع الخطب المكتوبة، وبطريقة مركزية وموحّدة، فهذا موجود أيضاً في بعض الدول، وهو مؤشر أخطر على فقدان المنبر لرسالته الحقيقية.
أما تعبير المنبر عن طبيعة المجتمع ومستوى وعيه واهتماماته، فيلحظ هذا في طريقة تعامل المجتمع مع منابر الجمعة، فعندنا المجتمعات التي تبحث عن الكلمة القويّة والجريئة مهما كانت نتائجها، وعندنا المجتمعات التي تبحث عن الاستقرار والسكينة والهدوء، ولا تحب الدخول في المشاكل والمجازفات، وهناك مجتمعات لا يهمها إلا قصر الخطبة وأداء واجب الجمعة بأقصر وقت ممكن، وهذه السلوكيّات المجتمعية المختلفة إنما تعبّر هي أيضاً عن طبيعة العلاقة بين أضلاع المثلث: الخطيب، ومن يعيّن الخطيب، ومن يستمع إلى الخطيب.
وِفق هذه المعادلة، فإن الخطباء يتحملون عبئاً ليس بالسهل، خاصة إذا وقعوا بين ضلعين متنافرين، حكومة مستبدة، وشعب ناقم، وهنا يكون الخطيب في مأزق حقيقي بين الالتزام بواجبه الوظيفي، أو الالتزام بمسؤوليته الاجتماعية، وفي بعض الأحيان يقع في سوء تقدير وسوء تصرّف من الطرفين، فالحكومة تريد منه أن يثبت ولاءه لها ولو أدّى ذلك إلى نفرة المصلّين، والمجتمع يريد منه أقصى ما يمكن أن يعبّر فيه عن مشاعرهم واحتقانهم المكبوت حتى لو أدّى إلى سجنه أو إعدامه أو إفراغ المنابر من أهلها، وأذكر بهذا الصدد أن وزير الأوقاف العراقي في الثمانينات أصدر أمراً أن كل خطيب لا يدعو لرئيس الجمهورية بالاسم يمنع من الخطابة، ويلتحق جندياً بجبهة القتال مع إيران، وقد وقع الخطباء بمأزق ليس بسبب التحرّج الشرعي، بل بسبب التخوّف من ردود فعل الشباب! وقد حصل المحظوران معا، فقدْ فَقَد بعض الخطباء منابرهم، بينما فقد الآخرون مواقعهم في مجتمعاتهم.
هناك مشكلة أخرى خارج هذا السياق، تتمثل في وجود شريحة من الخطباء في بعض البلاد، ليس لهم صلة بالمجتمع أصلاً، لأنهم وافدون وليسوا مواطنين، وهؤلاء من الطبيعي أنهم لا يعرفون مشاكل المجتمع ولا القضايا التي تشغله، ولا المجتمع يتوقع منهم التطرق إلى ذلك، ولا شك أن كثرة هذا الصنف من الخطباء يساهم في عزل المنبر عن محيطه الطبيعي، ويفرغه من رسالته ودوره المنشود.
إننا إذا أردنا أن نعيد للمنبر رسالته المجتمعية، فلنلاحظ السلسلة المتصلة من بدايتها في محاضن التعليم الديني، ثم المؤسسات الرسمية ومعايير التوظيف والمتابعة، مروراً بمسؤولية المجتمع نفسه ووعيه وطريقة تفكيره ونظرته للمنبر وما يتوقع منه، إضافة إلى مسؤولية الخطيب نفسه.