في صدد الحديث عن منظومة التوبة في الفكر الإسلامي نتعرف عن حقيقة التوبة عند العلماء وأنواعها وما يتبع ذلك من فضائل وشروط للتوبة والتائبين.
التوبة لغة: تعني الرجوع عن الشيء، وهي: ترك الذنب على أجمل الوجوه.
التوبة والاعتذار
والتعبير بالتوبة أجمل من الاعتذار ، لأن التعبير بالتوبة هو أعلى درجات الاعتذار، فإن المعتذر إما أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وقد أفعلت، والأخيرة هي التوبة.
والتواب كثير التوبة، ومن علامته أن يعقب التوبة العمل الصالح، كما قال تعالى: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان: 71]، فتمام التوبة الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل.
تعريف التوبة عند العلماء
يمكن جمع عناصر تعريف التوبة فيما يلي:
- ترك الذنب لقبحه.
- الندم على فعل القبيح
- العزيمة على ترك العودة إليه.
- تدارك ما يمكن تداركه من الأعمال الصالحة.
- حل عقد إصرار الذنب عن القلب.
- الإقبال على أداء حقوق الله تعالى.
التوبة النصوح: وهي أعلى درجات التوبة، ومعناها: تنزيه القلب من آثار الذنب، حتى لا يبقى له أثر، فلا يخطر على باله فعله مرة أخرى.
أنواع التوبة
جعل العلماء التوبة أنواعا، منها:
- توبة الإنابة: وهي الخوف من الله لقدرته عليك.
- توبة الاستجابة: الاستحياء من الله لقربه منك.
- التوبة الصحيحة: التوبة عن الذنب بصدق في الحال دون تأخير.
- التوبة النصوح: وقد سبق بيانها.
- التوبة الفاسدة: هي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.
التوبة والإنابة والأوبة
صاحب التوبة: هو من خاف العقاب. والتوبة عامة للمؤمنين. قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } (النور:31)
وصاحب الإنابة: التائب بطمع الثواب. والإنابة صفة الأولياء المقربين. قال تعالى: {وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } (ق: 33)
وصاحب الأوبة: التائب لمحض مراعاة أمر الله. والأوبة صفحة الأنبياء والمرسلين. قال تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (ص: 30)
شروط التوبة
تكاد تتفق كلمة العلماء على أن للتوبة بين العبد وربه ثلاثة شروط، ويزيد شرط رابع إن تعلق الأمر بحق الإنسان، وهي:
- أن يقلع عن المعصية.
- أن يندم على فعلها.
- أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا. فإن فقد أحد الثّلاثة لم تصحّ توبته
- إذا كان الذّنب يتعلّق بحقّ آدميّ: أن يبرأ من حقّ صاحبه.
فضائل التوبة
وللتوبة فضائل عظيمة، من أهمها:
التوبة تعدل كنوز الدنيا
فمن تأمل عطاء الله التوبة لعباده، أيقن أن عطاءه بالتوبة أعظم من عطاء الله كنوز الدنيا لعباده، بل أعظم من تحويل الجبال ذهبا، فقد أخرج أحمد وغيره بسند صحيح، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قالت قريش للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ادع ربّك يجعل لنا الصّفا ذهبا، فإن أصبح ذهبا اتّبعناك، فدعا ربّه فأتاه جبريل عليه السّلام، فقال: إنّ ربّك يقرئك السّلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصّفا ذهبا فمن كفر منهم عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التّوبة والرّحمة. قال: بل باب التّوبة والرّحمة»
التوبة ترقق القلب
فالتوبة تبقي قلب المؤمن حيا بالإيمان، رقيقا في تعامله، قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه: «اجلسوا إلى التّوّابين فإنّهم أرقّ أفئدة”.
التوبة سبيل الفتوح
بل من عظيم التوبة أنها باب من أبواب فتوح الله على عباده. قال أبو حازم- رحمه الله-: «عند تصحيح الضّمائر تغفر الكبائر، إذا عزم العبد على ترك الآثام أمّه الفتوح.
التوبة جلاء القلوب
وإن من أهم وظائف التوبة أنها تجلي قلوب التائبين، مما شابه من درن المعاصي ووسخ الآثام، كما جاء في الحديث: “إنّ العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتّى تعلو قلبه وهو الرّان الّذي ذكر الله {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين: 14) ” (صحيح الترمذي).
فقه التوبة
وللتوبة فقه يجب أن يدركه التائبون، ومن معالم فقه التوبة ما يلي:
يرى ابن تيمية رحمه الله : أن التوبة من ترك المأمور أولى من التوبة من فعل المحظور، فالتوبة من ترك الصلاة أو الصيام أولى من التوبة من ترك المحرمات.
ويرى ابن القيم: شمول التوبة لكل مراتب الدين (الإسلام، الإيمان، الإحسان): وذلك أن التوبة هي الرجوع عما يكره الله، إلى فعل ما يحبه الله، وهي مشتملة على الإسلام والإيمان والإحسان، ولهذا، كان فرح الله تعالى بالتائب، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222] ، وحديث:” لله أفرح بتوبة أحدكم” (صحيح البخاري).
التوبة من مظاهر الكمال البشري
قال بعض العارفين: لو لم تكن التوبة أحب إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه (الإنسان) فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي، ولقد كان كمال أبينا آدم عليه السلام بها، فكم بين حاله وقد قيل له: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) . . وبين حاله وقد أخبر عنه المولى بقوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى .
فالحال الأولى حال أكل وشرب وتمتع، والحال الثانية حال اجتباء واصطفاء وهداية، ويا بعد ما بينهما، ولما كان كماله (آدم) بالتوبة كان كمال بنيه بها أيضا.
الإصلاح من علامات قبول التوبة
فمن علامات قبول التوبة أن يعقبها المسلم بالأعمال الصالحة، وإصلاح ما أفسده من مجالات الذنوب، وقد تكاثرت الآيات على ذلك، منها:
قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 160]
وقوله سبحانه: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 89]
وقوله جلّ في علاه. { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 146]
التوبة من مقاصد الشريعة
فمن تأمل القرآن وجد أن التوبة من مقاصد الشريعة، و دليل ذلك قوله سبحانه: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً } (النساء: 27)
صفات صدق التائب
والتوبة الصادقة لها أمارات ظاهرة وعلامات واضحة، قال عنها يحيى بن معاذ- رحمه الله تعالى: «الّذي حجب النّاس عن التّوبة طول الأمل، وعلامة التّائب إسبال الدّمعة وحبّ الخلوة والمحاسبة للنّفس عند كلّ همّة»
التوبة سمة المؤمنين
والتوبة شعار المؤمنين، وسبيل المفلحين، كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (النور :31)، وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} (القصص : 67) وقال جل في علاه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم :8).
استدامة التوبة والغفران
فمن معالم التوبة في الإسلام أن تتصف بالاستدامة فلا تنقطع، فيظل المؤمن توابا لربه سبحانه، طارقا بابه مهما وقع في الذنوب والمعاصي، كما في حديث: ” يغفر له ويتاب عليه، ولا يملّ الله حتّى تملّوا “. وكذا في حديث: “إنّ الله- عزّ وجلّ- يبسط يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيء اللّيل، حتّى تطلع الشّمس من مغربها” (رواه مسلم)، وفي الحديث أيضا: “إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر” (أخرجه أحمد والترمذي).
الملائكة تدعو للمؤمنين بالتوبة
ولعظم التوبة، فإن ملائكة الرحمن تدعو لعباد الرحمن بأن يرزقهم التوبة النصوح الصادقة، ويدل عليه ما جاء في الحديث: ” والملائكة يصلّون على أحدكم ما دام في مجلسه الّذي صلّى فيه. يقولون: اللهمّ ارحمه. اللهمّ اغفر له. اللهمّ تب عليه. ما لم يؤذ فيه. مالم يحدث فيه”(متفق عليه).
مجالات التوبة
والتوبة قد تكون من الكبائر، كما في حديث” لقد تاب توبة لو قسمت بين أمّة لوسعتهم”(رواه مسلم) ، وهي كذلك تكون من الصغائر، كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم: 32].
أصناف التائبين
وغالب الحديث عن التوبة يتناول توبة العبد، ولكن التوبة تشمل مع ذلك:
توبة الأسرة والعائلة: بالاستقامة على أمر الله وشرعه والتزام أحكامه في الأسرة والعائلة.
وتوبة المؤسسات: وسبيلها أيضا أن تلتزم المؤسسات أحكام الله تعالى، وأن تتوب إلى الله مما تقع فيه من المحرمات، مثل: الوقوع في الربا، أو المتاجرة في الحرام، أو ارتكاب وممارسة ما حرم الله تعالى .
وتوبة المجتمع: بألا يتواطأ على المحرم، وأن يتواصى بالبعد عنه، وأن يسعى إلى التزام أحكام الله، كما قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71]
وتوبة الدولة: من خلال جعل مرجعيتها لأحكام الإسلام، وحفظ الدين ونشره ومحاربة البدع والمحرمات، وسن القوانين التي تساعد على استقامة الناس على دين الله تعالى، ووضع العقوبات الرادعة للمخالفين والعصاة، وترك كل المعاهدات والتحالفات التي لا تخدم الإسلام أو تبنى على الظلم والعدوان.
وبالجملة، فالتوبة حق واجب على الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول.