لا يتصدى لتوفيق بين الأحاديث المتعارضة إلا من كان على دراية واسعة بعلم الحديث والفقه وأصوله، وهذا ما اشتهر به الإمام الطحاوى من خلال كتبه وسيره، إذ كان يعد من الأفذاذ المتقدمين الفقهاء المحدثين البارزين، ومن أهم كتبه الدالة على نضوج شخصيته العلمية كتاباه: “شرح معاني الآثار” و”بيان مشكل الآثار” وهما من أجل دواوين السنة القيمة التي ألفت في منهج التعامل مع الأدلة الشرعية بطريق تبقى لنصوص الوحيين مكانتها التشريعية والتشريفية.

أوضح المؤلف في مطلع الكتاب السبب الباعث إلى التأليف أنه وجد الآثار المروية عنه صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المقبولة التي نقلها ذوو التثبت فيها والأمانة عليها، وحسن الأداء له، ولكن فيها أشياء يسقط معرفتها والعلم بما فيها عن أكثر الناس فمن هنا حرك همته لوضع هذا الكتاب.

ثم أبان أهداف الكتاب الرئيسية التي هي:

  1. تبيان ما قدر عليه من مشكل الآثار وشرحها
  2. استخراج الأحكام التي فيها والمعاني
  3. نفي الإحالات عنها حتى يزول التعارض والاختلاف[1]

وألمح كذلك إلى بعض المنهج الذي سيسير عليه في الشرح، ويقول رحمه الله ” وأن أجعل ذلك أبوابا، أذكر في كل باب منها ما يهب الله عز وجل لي من ذلك منها حتى آتي فيما قدرت عليه منها، كذلك ملتمسا ثواب الله عز وجل عليه والله أسأله التوفيق لذلك والمعونة عليه فإنه جواد كريم وهو حسبي ونعم الوكيل”[2]

ويمكن أن يستمد من مقدمة الكتاب معنى مشكل الحديث أنه: آثار ثابتة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقع منها ما يظهر لبعض الناس من الإحالات لقصور فهم المراد منها.

أبواب الكتاب

أوصل المؤلف أبواب الكتاب إلى 1002 بابا، وذكر في كل باب حديثا – وهو الأكثر – أو حديثين فأكثر، وجعل لهذه الأبواب عناوين تدل على ما فيها من الإشكاليات المشعرة بالاختلاف والتضاد بين أحاديث الباب وبين أحاديث أخرى أو آيات قرآنية وغير ذلك، ثم يشرع بعد ذلك في بيان حقيقة فقه الأحاديث المتناقضة بطريقة تزيل عنها التعارض وسوء الفهم فيحل محلها الفهم الصحيح وما تضمنتها من الأحكام، مبتدئا فيها بـ”باب ما قد روي عن رسول الله عليه السلام في أشد الناس عذابا يوم القيامة” ومختتما بـ”بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الإقعاء في الصلاة.

 ولم تكن أبواب الكتاب مرتبة حسب الموضوعات، ولم تنحصر في المجال المعين بل فيها أبواب الأحكام الفقهية وأبواب الاعتقاد وأبواب التفسير وهكذا، علاوة على أن هذه الأبواب وما جرى فيها تدل على دقة تسمية الإمام الطحاوي الكتاب بمشكل الآثار، حيث لم يخص دراسته بدرء التناقض بين حديث وحديث آخر فحسب؛ وإنما وسع دائرة درئ التعارض أكثر، فوافق اسم الكتاب محتواه، خلافا لابن قتيبة الذى سمى كتابه بـــ”مختلف الحديث” لكن مضمونه جار على مسمى آخر.     

منهج الكتاب

قد كان للإمام الطحاوى منهج وضوابط سار عليها في دراسة الأحاديث المشكلة، نص بنفسه على بعضها في مقدمة الكتاب، ولم يذكر الأخرى لكنها مستنبطة خلال تصرفه عند دفع التعارض المتوهم بين الأحاديث، ومن أبرز منهجه:

1- التزامه بذكر الأسانيد للآثار التي يوردها في الباب وما يعارضها من الآثار الأخرى، فقد اهتم برواية الأحاديث بأسانيد متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعاتها وشواهدها، مع اعتنائه بالقضايا الحديثية ويتكلم في الرجال جرحا وتعديلا، تصحيحا وتضعيفا وتعليلا لمواضع اختلاف الرواة ومواضع الانقطاع في الأسانيد وغير ذلك، وتراه أحيانا يبحث عن التصريح بالسماع إذا كان الراوي مدلسا، كما في قوله عن حديث ” المؤمن القوي خير…”فتأملنا إسناد هذا الحديث هل هو موصول أو قد دخله تدليس من ابن عجلان أتاه به عن الأعرج يحدث به عنه بغير سماع منه إياه. فوقفنا… على أن محمد بن عجلان إنما حدث به عن الأعرج تدليسا منه به عنه وأنه إنما كان أخذه من ربيعة بن عثمان عنه…الخ”[3]

وكما أنه يتكلم في صحة الأسانيد والمتون معا ولا يكتفى بصحة الإسناد دون المتن، حيث لا يبنى الحكم أو الجمع إلا بين الآثار المقبولة فحسب، ومن أمثلة ذلك قوله في باب “بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغازي يغل من قتله ومن إحراق رحله”، وإنه رأى الاختلاف في إسناد حديث الباب مع ميله على مضض إلى صحة الإسناد دون المتن لعدم عمل الفقهاء به من جهة، ولمخالفته لظاهر نص القرآن{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} [المائدة: 38].

قال:  “قد دل أن لا جزاء لهما فيما كان منهما غير قطع أيديهما، وكان ذلك على سرقتهما ما هو مال لغيرهما لا حظ لهما فيه، وكان الغال من الغنائم غالا لشيء له فيه حظ، فكان معقولا أنه إذا كان غير واجد على من كان منه ما ذكر في الآية أنه ليس فيه إحراق رحله كان إذا كان له فيه حظ أحرى أن لا يجب عليه في غلوله منه إحراق رحله، فانتفى بما ذكرنا أن يكون عليه في غلوله إحراق رحله، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روي عنه …من الوجوه المقبولة أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ” كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو نفس بنفس ” وفي ذلك ما ينفي أن يكون دمه يحل بما سوى هذه الأشياء الثلاثة”.[4]

2- تحرير محل المشكل في الحديث وبيان منشأ الخلاف وأسبابه؛ إما في شكل الأسئلة، وإما في شكل الإخبار وهو الأكثر، كما هو واضح وجلي في معظم تبويب الموضوعات، وإنه كان يمهد لكل حديث الباب بالمشكل المتبادر منه والشبه المثارة حوله ليكون مدخلا لدراسة دفع التوهم ودحض الإشكال.

 ومثال ذلك في قوله:”باب بيان ما أشكل علينا مما قد روي عنه عليه السلام من نهيه عن اتخاذ الدواب مجالس ومن نهيه عن اتخاذها كراسي” قال أبو جعفر: … مع وقوفنا على ما كان منه من جلوسه على ظهر راحلته للخطبة عليها في يوم عرفة بعرفة، وفي يوم النحر”[5]ثم يأتي بعد هذا المدخل ليحل المشكل ويرفع التوهم ويزيل التناقض.

3- منهجه في درء التعارضبين الآثار هو نفس منهج جمهور العلماء، من حيث البداءة بطريقة الجمع ثم الترجيح ثم النسخ، وإنه قد عني في الكتاب بوجوه مسلك الجمع أكثر من غيره تمشيا مع قاعدة “الإعمال أولى من الإهمال”، ولم يتأثر بمذهبه الحنفي القائل بتقديم النسخ على الجمع، ومن ذلك قوله في الجمع بين نهيه عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ الدواب مجالس؛ وجلوسه عليه الصلاة والسلام على ظهر راحلته للخطبة عليها في يوم عرفة بعرفة، أنه حاش لله أن يكون كان منه – عليه الصلاة والسلام – في فعله ما يضاد ما كان منه في قوله… وجلوسه للخطبة عليها، ولإسماعه إياهم أمره ونهيه مما لا يتهيأ له مثله في الجلوس على الأرض، وإذا كان الجلوس على الأرض لا يسمع منه ما يكون من أمره ونهيه كما يسمع ذلك منه، وهو على ظهر راحلته وكانت خطبته على ظهرها بما ذكرنا مما قد دعته إليه ضرورة، وكان ما في الحديثين الأولين من نهيه عما نهى عنه فيهما إنما هو نهي عن جلوس على ظهرها مما لم تدع إليه ضرورة، فخرج كل واحد مما في الحديثين، ومما في خطبته على راحلته على معنى خلاف المعنى الذي خرج عليه معنى ما في صاحبه، وانتفى أن يكون في ذلك تضاد.”[6]

4 – إزالة الإشكال عن الحديث بتعليقات تفسر لفظا غريبا، أو تزيل إبهاما أو توضح معنى مستغلقاً الذي سبب الإشكال في الحديث، كما جاء قوله في “بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي الدرداء ” طف الصاع ” لما منع زوجة أخيه المتوفى من الزواج بأخ آخر لأنه ابن أمة، وفسر الطحاوي معنى “طف” بالنقصان، وأن “ذلك انتقاص أبي الدرداء أخا أخيه لأمه، بما انتقصه به من أنه ابن أمة“. [7]

5- ذكره للأقوال في المسائل المتنوعة مع نسبتها لأصحابها بالأسانيد، وإذا كان الأمر متعلقا بعلم الحديث وإنه يرجع فيه إلى المحدثين كأحمد وابن معين والبخاري وغيرهم، وإذا كان في التفسير فإنه يرجع فيه إلى أهله وهكذا في الفقه واللغة وغيرها.

6- عنايته بذكر الأدلة وترتيبها ومناقشتها والجواب عليها عند ترجيحه للأقوال، ومن ذلك على سبيل المثال قوله في حديث: “ليس منا من لم يتغن بالقرآن” “فتأملنا معنى هذا الحديث فوجدنا الناس فيه على قولين: فقوم منهم يقولون أريد به الاستغناء بالقرآن عن الأشياء كلها; …، وقوم يقولون هو على تحسين الصوت ليرق له قلب من يقرؤه، فالتمسنا الأولى من هذين القولين بمعناه” ثم أورد أدلة القول الثاني وما حفته من الاحتمالات المشعرة بضعف القول؟

 وعاد قائلا:”ووجدنا من قرأ القرآن بغير تحسين منه له صوته مريدا بقراءته إياه الأحوال المحمودة مثابا على ذلك غير مذموم عليه، فعقلنا بذلك أن يكون مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ” من لم يتغن بالقرآن” هذا المعنى، ولما انتفى ذلك المعنى عنه، ولم يقل في تأويله غير هذين القولين، وانتفى أحدهما ثبت الآخر منهما وهو الاستغناء به عن سائر الأشياء سواه”[8]

7- تعقيبه للحديث بذكر الفوائد والأحكام المستنبطة كما فعل مع حديث ”  تأخر جبريل عنه عليه السلام عنه – صلى الله عليه وسلم – في الوقت الذي كان وعده أن يأتيه فيه في منزله بسبب الجرو الذي كان في بيته، ولم يعلم به”[9]

وقد حفِل الطحاوي هذا الحديث باستنباطات فقهية متعددة حول تخلف الوعد بالعذر.

8- تقيده بما يدل عليه الحديث وإن كان مخالفه في ذلك الصحابة، كما تراه في ختام الكتاب مجاوبا عمن يحتج بالعبادلة من الصحابة أنهم يقعون في الصلاة ويقول رحمه الله” فكان جوابنا له في ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حجة الله تعالى على خلقه، وقد يحتمل أن يكون هؤلاء العبادلة لم يبلغهم هذا النهي، ولو بلغهم لما خالفوه، ولا خرجوا عنه.”[10]

ميزة الكتاب وأهميته

تجلت في هذا الكتاب الدقة في عرض المسائل المشكلة مع حسن تناولها وحلها، والعناية بالكلام على الأحاديث صحة وضعفا، والالتزام بالأمانة العلمية من حيث إسناد القول لقائله، واحترام وتقدير أهل التخصص حق التقدير؛ وذلك برجوع في كل فن إلى أهله، وكما ضمن الكتاب المنهج العلمي الناضج في الدفاع عن أصول الدين وفي سد الطرق أمام كل ساعي إلى ضرب النصوص بعضها ببعض، إضافة إلى أن هذا الكتاب من أوسع الكتب في بابه وفيه العلوم المتنوعة من الحديث وأصوله والفقه وأصوله والعقيدة والعربية بأنواعها وغيرها، ويعد أيضا من مظان أقوال الأئمة السابقين المسندة.


[1]  ينظر: شرح مشكل الآثار 1/6

[2] – شرح مشكل الآثار 1/6

[3]  المصدر السابق 1/236

[4]  المصدر السابق 10/448

[5]  المصدر السابق 1/31

  [6]  المصدر السابق

[7]  المصدر السابق 9/81

[8]  المصدر السابق 3/347

[9]  المصدر السابق 2/338

[10]  المصدر السابق 15/483