الاختلاف بين الناس في الأمور الحياتية أمر طبيعي يقع بسبب الاختلاف في وجهات النظر، وفي إدراك القضايا والقدرة على ربطها بأصولها وأدلتها ومناسباتها، والاختلاف أمر محمود لا يجوز إنكاره إذا كان صادرا من مكانه وواقعا في محله، وذلك إذا صدر من أهل العلم والدراية وكان بعد الاجتهاد والبحث، ولم يقع بسبب التعصب للرأي المعين، أو لغرض إثارة الفتن والمراءة في الدين. وأدب الاختلاف يعد من الامور المهمة التي يجب التذكير بها لعامة المسلمين، ومن هذا المنطلق جاءت محاضرة ” أدب الاختلاف” لفضيلة الشيخ سعيد الكملي والتي ألقاها بالعاصمة القطرية الدوحة بمجمع الشيخ عبدالله الأنصاري للقرآن الكريم وعلومه يوم السبت 11 فبراير 2023 م .
أشار الشيخ سعيد الكملي في بداية المحاضرة إلى أول خلاف وقع في عهد رسول الله ﷺ وكيف تعامل النبي معه بجميع الإنصاف والاحترام للفرق المختلفة من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ لنا لما رجع من الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة).
فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي ﷺ، فلم يعنف واحدا منهم.
وجاء في رواية أخرى: فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ﷺ، وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدا من الفريقين.
فقد اجتهد كل من الفريقين حسب فهمه لأمر النبي ﷺ، فالفريق الذي أدى صلاة العصر في الطريق قدم أهم الأمرين المتعارضين وهو الصلاة، وفهم أن النبي ﷺ لم يرد منهم إلا الإسراع في الخروج، ما لم يخشوا فوت وقت الصلاة، لذلك صلى هؤلاء في الطريق، وأما الفريق الآخر التزموا بظاهر النص، وأدوا الصلاة في دار بني قريظة، ولم يؤثم أحدا منهما، لأن الاختلاف المبني على النص مقبول إذا وقع ممن هو مؤهل للاجتهاد بعد النظر.
ويرى الشيخ سعيد الكملي أن النبي ﷺ لم يعنف أحدا من الصحابة ليؤسس لهم أصلا ثابتا في الإسلام، وهو الاجتهاد في تفسير النص والعمل به، وأن المجتهد الذي بذل جهده في الوصول إلى حكم شرعي فهو على جميع أحواله مأجور، فإن وافق الصواب كان له أجران، وإن أخطأ في الحكم فله أجر البحث والطلب.
هذا الأصل أخذ به الصحابة وعملوا بها في التعليم والتفقه في الدين فكان المجتهدون منهم يخالف بعضهم البعض، ويتسع صدر كل واحد للآخر، دون التشهير والتبكيت، ومن نماذج ما وجدنا من الخلاف الفقهي بين الصحابة رضوان الله عليهم:
اختلاف عائشة رضي الله عنها مع سائر أمهات المؤمنين في قضية رضاع الكبير، ذكر الشيخ الكملي أن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر بنات إخوتها وأخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى رسول الله ﷺ فقالت: إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي قال: ” أرضعيه ” قالت: وهو رجل كبير؟ فضحك وقال: ” ألست أعلم أنه رجل كبير؟ ” قالت: فأتته بعد وقالت: ما رأيت في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكرهه.
قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
وعند البيهقي: فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخيها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها خمس رضعات فيدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي ﷺ أن يدخلن عليهن من الناس بتلك الرضاعة حتى يرضعن في المهد وقلن لعائشة رضي الله عنها والله ما نرى لعلها رخصة لسالم من رسول الله ﷺ دون الناس.
وفي صحيح مسلم أن أم سلمة زوج النبي ﷺ كانت تقول: ” أبى سائر أزواج النبي ﷺ أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة وقلن لعائشة: والله ما نرى هذه إلا رخصة أرخصها رسول الله ﷺ لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا .
وبقيت عائشة على رأيها وخالفها أزواج النبي ﷺ ولم يفهمن من الأمر إلا تخصيصه بسالم مولى أبي حذيفة. وبقيت المودة والاخوة بينهن.
وذكر الشيخ الكملي مثالا آخر من تصرفات الصحابة رضوان الله عليهم فيما يختلفون عليه من المسائل، وهو مسألة العول، حيث كان الخلاف فيها بين الصحابة على طرف، وابن عباس حبر الأمة، والمقصود بالعول أن يزيد مجموع سهام الورثة على أصل التركة بسبب ازدحام الفروض عليها.
لم يرد عن رسول الله ﷺ نص في هذا الموضوع؛ لأنه لم يُعرض عليه، وقد انقضى عهد أبي بكر رضي الله عنه ولم تعرض لهم مسألة من مسائل العول.
فلما كان عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرضت عليه مسألة من هذا النوع يقال: هي مسألة زوج وأختين لغير أم، ويقال: هي مسألة زوج وأخت شقيقة وأم، فتردد فيما يفعل، وقال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر، ولم يشأ يقطع برأي حتى يدعو صحابة رسول الله -ﷺ- الذين فقهوا عنه ووعوا دينه، فجمعهم وقال لهم: أشيروا علي، فإني إن بدأت بالزوج فأعطيته حقه كاملا لم يبق للأختين حقهما، وإن بدأت بالأختين فأعطيتهما حقهما كاملا لم يبق للزوج حقه، فأشار عليه بعضهم بالعول.
وكان ابن عباس شديدا في مخالفة سائر الصحابة، وذهب إلى عدم القول بالعول.
فقد روى البيهقي في الكبرى، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعدما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ” ترون الذي أحصى رمل عالج عددا، لم يحص في مال نصفا ونصفا وثلثا، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟
فقال له زفر: يا أبا عباس، من أول من أعال الفرائض؟ قال: “عمر بن الخطاب رضي الله عنه “، قال: ولم؟ قال: “لما تدافعت عليه، وركب بعضها بعضا”.
قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدم الله، ولا أيكم أخر، قال: ” وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص”.
ثم قال ابن عباس:” وايم الله، لو قدم من قدم الله، وأخر من أخر الله، ما عالت فريضة.
فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: “كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة فتلك التي قدم الله، وتلك فريضة: الزوج له النصف، فإن زال فإلى الربع لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن، لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة”.
فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: ” ” هبته والله “.
قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وايم الله، لولا أنه تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم.
وهذه المسائل التي اختلف فيها الصحابة لا يبطل الأخوة التي أقامها الله تعالى بين الصحابة، وقام عليها الدين الإسلامي، وهكذا يجب أن يتعلم الناس أن الخلاف الفقهي أو الخلاف الفكري لا يلزم منه المعاداة.
الجدير بالذكر أن هذه المحاضرة جاءت ضمن برنامج الزيارة العلمية للداعية المغربي المعروف الشيخ سعيد الكملي والتي نظمنت من قبل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر خلال الفترة من 5 فبراير إلى 11 فبراير 2023 م.