في عالم العمل الخيري الخليجي، نحن أسياد التفاصيل الصغيرة. لو نظرت إلى خارطة عطائنا، لوجدتها أشبه بـ “لوحة فسيفسائية” ضخمة، تتكون من ملايين القطع المتناثرة: كفالة يتيم هنا، حفر بئر هناك، سلة غذائية في الشرق، وترميم مسجد في الغرب.
هذه الأعمال، في ميزان الأجر الأخروي، عظيمة ولا شك. ولا عيب فيها، فهي تسد رمقاً وتكفكف دمعاً. ولكن في ميزان “التأثير الدولي” و”صناعة المستقبل” والهندسة الاستراتيجية للعمل الخيري، هذه الفسيفساء – رغم جمالها – تكشف عن هشاشتنا الاستراتيجية.
نحن نغرق في الجزئيات، ونترك للآخرين هندسة “الكليات” ، ولفهم جذور هذه الأزمة بشكل أعمق، يمكنك العودة إلى المقال السابق: (حين تكون المليارات مجرد أرقام: لماذا نحن “أبقار حلوب” في نظام عالمي لا يرحم؟)
أين نحن من “غرف العمليات”؟
لنأخذ التعليم كنموذج صارخ. نحن نبرع في “كفالة طالب علم”؛ ندفع رسومه، ونشتري حقيبته. هذا جيد. لكن، أين نحن ممن يجلسون الآن داخل أروقة وزارات التربية والتعليم في الدول النامية، يشاركون في صياغة المناهج، وتأسيس النظم التربوية، وتدريب المعلمين؟
أين مؤسساتنا من برامج رعاية “الأطفال المبتكرين” والموهوبين التي ترعاها منظمات الأمم المتحدة والوكالات الدولية المتخصصة؟ تلك البرامج التي لا تكتفي بإطعام الطفل، بل تصنع عقله وتشكّل ولاءاته للمستقبل. هم يشتغلون على “أنظمة التشغيل” (Operating Systems) للمجتمعات، ونحن لا نزال ننشغل بتوفير “قطع الغيار”.
هذا النمط من العمل الفسيفسائي، أو ما يمكن تسميته بنهج “المنح غير الممنهجة” (ad hoc donations)، يجعل صورتنا الذهنية عند العالم محصورة في دور “المحسن الطيب” الذي يظهر في الصور الفوتوغرافية، لكنه يغيب عند رسم السياسات. إنه يركز على معالجة الأعراض بدلاً من اجتثاث الأسباب الجذرية. ويضعف قدرتنا على الهندسة الاستراتيجية للعمل الخيري وترتيب أولويات التأثير.
سؤال المرجعية: لماذا نعمل هكذا؟
لكي ننتقل من “الفسيفساء” إلى ” الهندسة الاستراتيجية للعمل الخيري”، علينا أن نواجه سؤالاً أعمق: ما هي مرجعيتنا في هذا العمل؟ تتجاذبنا في هذا الميدان ثلاثة أبعاد: رغبتنا في خدمة “القيم الإسلامية” (كالدعوة والأجر)، وسعينا لخدمة “المصالح الوطنية” (كقوة ناعمة)، وطموحنا لتبني “رؤية إنسانية عالمية”.
التشتت بين هذه الأبعاد هو ما ينتج العمل الفسيفسائي. وللخروج من هذا المأزق، نحن بحاجة ماسة لتطوير ما أسميه “فقه الشراكة الدولية”.
نحو فقه “المقاصد” لا فقه “الموانع”
مشكلتنا الكبرى أن “الفلتر” الذي نستخدمه لتقييم المشاريع الدولية هو غالباً “فقه الموانع” التقليدي: هل هذا حلال أم حرام؟ هل يجوز دفع الزكاة لغير المسلم؟ هذا المدخل الدفاعي يجعلنا ننسحب من مساحات التأثير الكبرى خوفاً من الشبهات، وننعزل في دوائرنا الآمنة (الفسيفساء).
الحل يكمن في:
- الانتقال إلى “فقه المقاصد”. مقاصد الشريعة (حفظ النفس، العقل، الدين، النسل، المال) هي لغة عالمية بامتياز.
- عندما ندعم إصلاح مناهج التعليم في دولة أفريقية، نحن نحقق “حفظ العقل” على مستوى أمة، وليس فرداً واحداً.
- عندما نشارك في برامج أممية للتمكين الاقتصادي، نحن نحقق “حفظ المال” والنفس.
- هذا الفقه الجديد يمنحنا الجرأة للدخول في شراكات معقدة، ويحولنا من باحثين عن “الموانع” إلى قناصين لـ “الفرص”.
لكن، سيقول قائل: “المنظمات الدولية لديها أجندات مشبوهة تخالف قيمنا”. هذا صحيح، وهذا هو التحدي. الهروب ليس حلاً، والذوبان فيهم ليس خياراً. الحل يكمن في منهجية “الفرز الاستراتيجي” للقضايا الدولية إلى ثلاث مناطق:
- خطوط حمراء: قضايا تمس ثوابتنا (مثل بعض الأجندات الجندرية الراديكالية). هنا نقول “لا” بوضوح، وهذا حقنا السيادي.
- مساحات خضراء: مساحات التوافق الإنساني الكامل (مكافحة الفقر، الأوبئة، التعليم الأساسي). هنا نعمل بكل طاقتنا.
- مساحات رمادية: قضايا خلافية تتطلب حواراً، تفاوضاً، وبحثاً عن مشتركات. هنا تظهر براعة “الشريك الاستراتيجي” الذي لا ينسحب، بل يفاوض ليعدّل الكفة.
الخلاصة
إن الانتقال من دور “كافل اليتيم” (على فضله) إلى دور “مهندس المنهج الدراسي”، يتطلب شجاعة فكرية وثقافة مؤسسية قادرة على الهندسة الاستراتيجية للعمل الخيري. قبل أن يتطلب ميزانيات مالية.
يتطلب أن ندرك أن “النفوذ” لا يأتي من كثرة ما تنفق، بل من “أين” و”كيف” تنفق. ولكن، لكي نقوم بهذا الاشتباك المعقد، وندخل وزارات التعليم والمنظمات الدولية كشركاء، نحتاج إلى نوعية خاصة من البشر. لا نحتاج موظفين إداريين، بل نحتاج “دبلوماسيين إنسانيين” و” عقولاً استراتيجية”. فهل نمتلك البنية التحتية لصناعة هذه العقول؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم: “الدبلوماسي المفقود ومصانع الأفكار”.
