ربما أغلبنا قرأ أو سمع قصة من قصص جحا مع الناس، وواحدة منها حول ما تعارفت عليه العامة في المقولة “رضا الناس غاية لا تُدرك”. كيف جسدها جحا واقعاً أمام ابنه وبشكل دقيق، وهل استفاد أبو طالب من إرضاء الناس؟
تعلم من جحا
أراد أن يعلم جحا ابنه درساً عملياً يثبت له صدق المقولة، لتكون منارة يسترشد بها في بعض شؤون حياته. خرج معه إلى السوق وركب حماره، فيما ظل الابن يتبعه، فلما كانا في الطريق، مرّت نسوة بهما، فأخذن ينهرن جحا قائلات: أيها الرجل، أما في قلبك رحمة؟ تركب الحمار وتدع الصبي الضعيف خلفك يعدو؟ هذا مشهد أول.
في المشهد الثاني، ينزل جحا عن الحمار ويأمر ابنه بالركوب. حتى إذا كانا في الطريق نحو السوق، رأى مجموعة من كبار السن المشهد، فضرب أحدهم كفاً بكف، وقال: لمثل هذا فسد الأبناء وتعلّموا عقوق الآباء.. أيها الرجل، أتَمشي وأنت شيخ طاعن في السن وتدع الحمار لهذا الولد، وتطمع بعد ذلك أن تُعلّمه الأدب والحياء؟ همس جحا لابنه قائلاً: أسمعت؟ هيا بنا نركب الحمار معاً، في مشهد ثالث سيكون مذهلاً بعد قليل.
مرّت بهما جماعة ورأوا المنظر وهالهم ذلك، فصاحوا بهما قائلين: أما تتقيان الله في هذا الحيوان الهزيل؟ أتركبانه معاً، وكل منكما يزن من الشحم واللحم ما يزيد على وزن الحمار؟ نظر جحا إلى ولده مبتسماً، وقال له: قم بنا نمشي معاً ونرسل الحمار أمامنا حتى نأمن سوء المقال من النساء والشيوخ وأصدقاء الحيوان.
ما إن مرّت لحظات على الموقف، حتى رآهما عدد من خبثاء القرية، وأخذوا يتهامسون فيما بينهم حتى بلغوا جحا وابنه، وقالوا لهما: والله ما يليق بهذا الحمار إلا أن يركبكما أو تحملاه وتريحاه من وعثاء الطريق! وفعلاً قام جحا وابنه في مشهد خامس وأخير، لكنه سيكون الأكثر ذهولاً للناس، وعمدا إلى شجرة وأخذا فرعاً متيناً، ربطا الحمار به، وحمل كل منهما جانب الفرع، وأخذا يسيران في الطريق نحو السوق، حتى بدأ الناس يتجمّعون للمشهد العجيب شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء شرطي بسبب زحام الناس، ورأى المنظر، فقرّر أن يقود جحا وابنه إلى طبيب، فلعل خللاً أصابهما في عقليهما! قال جحا لابنه وهما في الطريق إلى الطبيب في ختام الدرس العملي: هذه يا بني عاقبة من يستمع إلى القيل والقال، وإن رضا الناس يا بني، غاية لا تُدرك.
المنبت لا أرضاً قطع ولا أبقى ظهراً
من هنا يتبيّن لنا أن المرء منا في الأساس، لا بدّ أن يكون هو الذي يصنع واقعه وحياته وفق ما يراه هو، أو وفق معاييره الخاصة، لا وفق معايير الآخرين أو رؤاهم. المرء لا بدّ أن يكون هو صانع واقعه قولاً وفعلاً، لا يلتفت إلى هذا وذاك، أو يطلب رضا فلان وعلان.
كم منا من قام بمثل ما قام به جحا وابنه؟ كثيرون دون مبالغة. نعم، كثيرون منا أضاعوا أوقاتاً وجهوداً سدى في سبيل إرضاء هذا وذاك أو تلك، رغبة أو رهبة، مجاملة أو تزلّفاً. لكن خلاصة الموضوع أننا لا أرضيناهم، ولا رضينا نحن في الوقت ذاته بصنائعنا إليهم، فصار المرء منا كالمنبتّ، الذي جاء ذكره في حديث – وإن كان ضعيفاً – فإن معناه صحيح. يقول الحديث: “إن المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا أبقى ظهراً”. أي أن المنبت، وهو المسافر الذي لا يتوقف في سفره، يركب دابته ويُجهدها ليقطع مسافة السفر بشكل أسرع، حتى تجهد دابته، فتخور قواها، وتسقط. فهو بذلك، لا قطع المسافة المرغوبة، ولا حافظ على حياة دابته، فانقطعت به السبل في الصحراء. وهكذا حال من يجهد نفسه في طلب رضا الناس، ولو على حساب نفسه وقناعاته ورؤيته للأمور والأشياء.
أبو طالب وإرضاء الناس
“يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أُحاجّ لك بها عند الله”. هكذا كان يحثّ الرسول الكريم ﷺ عمه أبا طالب وهو في سكرات الموت، من أجل أن ينطق الشهادة كي يموت مسلماً، يختم بها أعماله الجليلة في حق الإسلام. وكان حول أبي طالب حينها زعيم الكفر أبو جهل، وهو يقول له: “أترغب عن ملة عبد المطلب؟!”
وهكذا ظلّ الرسول ﷺ يواصل ويحاول إقناع عمه بنطق الشهادة، فيما أبو جهل يعيد مقولته ويذكّره بالناس ومكانته عندهم، إلى أن قال أبو طالب في آخر ما نطق: “على ملة عبد المطلب”. ومات مشركاً.
رغم كل الجهود والأعمال العظيمة التي قام بها أبو طالب مع رسولنا الكريم ﷺ إلا أنه لم يختمها بختام مسك، ولم يُسلم، بل ظل على دين آبائه حتى أسلم الروح، ولم يكن من سبب يدفعه إلى ذلك سوى الخشية من ملامة الناس وكلامهم، وخشي أن تقول قريش إنه جزع وخاف عند موته فأسلم.
إن قصة وفاة أبي طالب نموذج يبيّن لك كيف يمكن أن يؤدي الاهتمام الشديد والمبالغ فيه بكلام الناس دون وجه حق، إلى عواقب غير محمودة. وبالطبع، لا أقول هنا بتجاهل ما يقوله الناس تماماً، ولكن ننصت لهم ونسمع في حدود المعقول، وضمن إطار من الحق المعروف، لا أن ننصت لهم على حساب الدين والأخلاق والمبادئ.
إنك إن حرصت على إرضاء فلان وعلان، فمن المؤكد أنك ستصل إلى نهايات غير محمودة، وإلى طرق مسدودة، باعتبار أن البشر أمزجة وأهواء. فقد تُرضي هذا وتُخالف ذاك، والعكس صحيح، وبالتالي لن تصل إلى نتيجة مرجوة نهاية الأمر. لكن حين تكون غايتك إرضاء الله واتباع الحق، فتأكّد أنك ستصل إلى نهايات حميدة، وإن خالفت الناس كل الناس.
خاتمة
من طريف ما جاء عن الإمام الشافعي ضمن هذا السياق، وأختم به موضوعنا، قال: “ضحكتُ، فقالوا: ألا تحتشم؟ بكيتُ، فقالوا: ألا تبتسم؟ بسمتُ، فقالوا: يُرائي بها. عبستُ، فقالوا: بدا ما كتم.صمتُّ،فقالوا: كليل اللسان. نطقتُ، فقالوا: كثير الكلم. حلمتُ، فقالوا: صنيع الجبان، ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ، فقالوا: لطيشٍ به، وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون: شذّ إن قلتُ لا، وإمّعةٌ حين وافقتهم. فأيقنتُ أني مهما أردْ رضا الناس، لا بدّ من أن أُذَم!”