مزعج أن ينقض أحدهم عهده معك ويخونك، بل ويعتدي عليك مادياً ومعنوياً بصورة وأخرى، ما يستدعي منك فعلياً في كثير من الأحيان إلى رد الصاع صاعين، باعتبار فداحة الجرم المرتكب من هذا الذي ينقض العهود، بل يتمادى في ذلك ليعتدي بقتل وسرقة وترهيب وغيرها من أفعال تستوجب رداً يتناسب معها. وهذا أمر أشارت إليه آية كريمة في سورة المائدة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم }.
قيل بأن الآية – كما جاء في تفسير القرطبي – نزلت في رجال من قبيلة عُرينة، كانوا قد قدموا على رسول الله – ﷺ – فاجتووا المدينة (أي كرهوا المقام بها) وقد أصابهم مرض ما، فأمر لهم الرسول الكريم بعلاج معين هو أن يشربوا من أبوال وألبان إبل الصدقة، فانطلقوا إلى مراعي تلك الإبل، يشربون من أبوالها وألبانها مدة من الزمن.
لما تعافوا من مرضهم، ظهرت نواياهم الخبيثة، حيث قتلوا راعي الإبل ومثلوا به ووضعوا الشوك في عينه، ثم استاقوا النعم؛ فبلغ النبي – ﷺ – خبرهم من أول النهار، فأرسل في آثارهم؛ فما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بمسامير فأحميت فكحّلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما قتلهم، وتم إلقاؤهم في الحرة، يستسقون الناس فلا يُسقون. فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
ما فعله الرسول الكريم بقطاع الطرق أولئكم، المرتدين عن الدين، قتلة الأبرياء وسرّاق الإبل، إنما هو حماية للمجتمع من تلك النوعيات المفسدة في الأرض أن تظهر أخريات مثلها، أو تتجرأ واحدة منها على المسلمين. وما العقوبة الغليظة إلا لغلظة وقسوة وشناعة فعلتهم، وهو جزاء دنيوي وفي الآخرة عذاب عظيم كما في الآية الكريمة.
غدر بني النضير
في السيرة كذلك نجد قصصاً من غدر يهود، مثل بني النضير ومن بعدهم بني قريظة، وقبلهم بني قينقاع. فأما غدر بني النضير حسب رواة السير، أنهم حاولوا اغتيال النبي الكريم – ﷺ – بعد أن ذهب إليهم في شأن لهم صلة به يتباحث معهم، وقد رحبوا به – ﷺ – بادئ الأمر، ثم خلا بعضهم ببعض، بعد أن جلس رسول الله – ﷺ – مع بعض أصحابه إلى جانب جدار من بيوتهم، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فَمَنْ رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقام أشقاهم وهو عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة، فأتى رسول الله – ﷺ – الخبر من السماء بما أراد القوم.. إلى آخر القصة.
وفي رواية أخرى لغدر بني النضير قد تكون هي الأصح حسب بعض رواة السير، أن تآمرهم بدأ منذ خروج الصحابة مهاجرين إلى المدينة، لكن فاجأهم النبي – ﷺ – بعلمه بما يقومون به مع كفار قريش، وذكّرهم بالمعاهدة التي بينهم وبينه، فتوقفوا.
لكنهم عادوا بعد غزوة بدر مرة أخرى بعمل دنيء خسيس. حيث أرسلوا إلى النبي – ﷺ – أن يخرج إليهم في ثلاثة من أصحابه، ليلقاهم ثلاثة من أحبارهم، فإن « آمنوا بك اتبعناك « هكذا كانت رسالتهم. فوافق الرسول الكريم على ذلك.
كانت خطتهم – كما جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني – أن يخرج اليهود الثلاثة ومعهم خناجر مخفية يقومون بمهمة الاغتيال على حين غرة. لكن تنامى خبر ذلك إلى امرأة من بني النضير لها أخ من مسلمي الأنصار، فأخبرته بأمر بني النضير، ليقوم الأنصاري من فوره بإعلام النبي – ﷺ – قبل أن يخرج إليهم.
قرر عليه الصلاة والسلام بعد ذلك الخبر، أن يصبّحهم بالكتائب المسلمة، فحاصرهم يومها بعد قتال ومناوشات لم يستمر ويصبر عليها يهود بنو النضير، فلجأوا إلى حصونهم كعادتهم في القتال من وراء جُدُر، ليدخلوا بعد ذلك في خلافات بينية، وصار بأسهم بينهم شديدا. ومكثوا على ذلك مدة، فيما الحصار يشتد حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت، خاصة بعد أن أحرق المسلمون نخيلهم، فما كان منهم إلا رفع رايات الاستسلام، خاضعين لما يأمرهم به النبي – ﷺ – فأمر لهم ما أقلّت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا ما يستطيعون حمله، حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يقدرون عليه من خشبها. وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام.
غدر بني قريظة
لم يتعظ هذا الفرع من يهود مما جرى لفروعهم السابقة، بني النضير ومن قبلهم بني قينقاع. حيث دخل بنو قريظة في عمل أقبح وأكثر خسة وإجراماً وخطراً على المسلمين، في وقت كان المسلمون بأمس الحاجة للمساندة من أي حليف.
وعلى رغم أن بني قريظة كانوا في معاهدة سلام وأمان واحترام وعدم اعتداء مع دولة الإسلام، إلا أنهم كعادتهم نقضوا العهد هذا، من بعد أن غرّتهم كثرة الأحزاب النجسة المشركة حول المدينة، وقد وجدوها فرصة ثمينة للنيل من المسلمين، على رغم أنه لم يكن قد وجدوا من المسلمين تجاههم ما يستدعي ذلك النقض، لكنها نفوس مجبولة على الخسة ونقض العهود والمواثيق منذ القدم وإلى يوم الناس هذا، بل إلى ما شاء الله للأرض أن تدوم، وهذا ليس بالأمر الجديد نقرأه عليكم. فكان جزاؤهم المعروف المستحق، قاسياً بقسوة خيانتهم لله وللرسول في أحرج الأوقات والظروف.
إنّ قصص الغدر والخيانات كثيرة في كل الحضارات، وتتكرر في كل زمان ومكان، بل لم ولن تتوقف إلا بتوقف الحياة على هذه البسيطة. وما رد الفعل من ضحايا الخيانات حين تنقلب الأمور لصالحهم، سوى بعض الجزاء الدنيوي العادل، فيما الأخروي يعلمه الله. وما سرد قصص الخيانات تلك بالأمر الجديد، لكن من باب العبرة والعظة، لأنها تتكرر بنفس السيناريوهات أحياناً. وحتى لو اختلفت، واختلفت الوجوه فيها، فالقصص هي ذاتها، بنفس الأهداف والتوجهات، وكذلك آثارها هي ذاتها. لكن الغرابة أن تتكرر مع أناس كان أسلافهم ضحايا غدر وخيانات، فإذا بهم اليوم سائرون على المنوال نفسه مع الغادرين والخائنين، في صورة لا يمكن تفسيرها سوى أنها الحماقة، لا أكثر ولا أقل.. نعم إنها الحماقة التي أعيت من يداويها.