أحد الكتب المهمة التي اضطلعت بتحليل الخلفيات والعقد النفسية التي تقف وراء كثير من مظاهر التخلف والفشل والارتباك في عالمنا العربي، “التخلف الاجتماعي .. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” وألفه المفكر اللبناني د.مصطفى حجازي وحشد فيه كثيرا من الأفكار والنظريات المهمة في علم الاجتماع النفسي، وخصوصا فيما يتعلق بدراسة التخلف الاجتماعي.
تمد الكتاب في تحليله ـ حسب المؤلف على الإنسان اللبناني خاصة والعربي عامة ولكنه في الحقيقة ـ وحسب المؤلف دائما ـ لا ينطبق على كل لبناني أو كل عربي؛ بل هناك خصائص نوعية تتداخل أحيانا ولكنها لا تتطابق ومن ثم لا تصلح للتعميم ولكنها لا تحول دون محاولته.
خصص المؤلف القسم الأول من كتابه للحديث عن البنية النفسية للتخلف وملامح الوجود المتخلف، وصدر ذلك ببيان أن موضوع كتابه يحاول أن يكمل دراسات التخلف التي ظلت تسيطر عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية وتنظر للتخلف من خلال مظاهره (نسبة الدخل ـ الفقر ـ التعليم ـ التنمية ـ الديمقراطية إلخ)، دون أن تعطي اعتبارا للجوانب النفسية للتخلف، والتي تعتبر ـ حسب المؤلف ـ خلفية حاكمة وموجهة ومنتجة لكل تكل المظاهر سابقة الذكر، أما القسم الثاني فقد خصصه المؤلف لما سماه: “الأساليب الدفاعية”، وتعني عنده ذلك النمط من الأفكار والتصورات والمواقف التي يتبناها الإنسان المتخلف أو التي تكمن بشكل لا واع في وجوده النفسي، والتي يدافع بها عن تخلفه شعوريا أو لا شعوريا وتسهم في استمرار ذلك التخلف.
يعيش الإنسان المتخلف ـ حسب المؤلف ـ بين قهرين؛ قهر الطبيعة القاسية التي لا يجد سبيلا للتغلب عليها وقهر السيد المتسلط الذي لا مناص من الرضوخ له، إنه إنسان يعيش تحت القهر الطبيعي والقهر البشري، وبقدر ما “تتضخم أنا السيد وينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود، يصبح الأول أسير ذاته، وينحدر الثاني إلى أدنى سلم الإنسانية، ويصبح عنق علاقة التسلط مضافا ومتفاعلا مع قسوة الطبيعة واعتباطها”.
هناك منهجان لدراسة نفسية الإنسان المتخلف؛ المنهج الانبنائي والمنهج التاريخي، وإذا أخذنا المنهج التاريخي فإن واقع الإنسان المتخلف ـ حسب المؤلف ـ سينتظم في ثلاثة أنماط من الوجود، تبدأ بالرضوخ وتنتهي بالتمرد.
مرحلة القهر والرضوخ هي المرحلة المظلمة من تاريخ المجتمع (عصر الانحطاط)، إنها تمثل مرحلة الذروة بالنسبة للتسلط ومرحلة الحضيض بالنسبة للمجتمع، و”فيها تكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سلطتها وحالة الرضوخ في أشد درجاتها”، فيها يفقد الإنسان المقهور قيمته كاملة، وتكون الجماهير في حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة.
شجعت هذه المرحلة المستعمر والمتسلط الداخلي على تكوين أحكام تبخيسية مسبقة عن الشعوب المقهورة، واعتبرها ثابتة ودائمة، “إنها جماهير منحطة لا تستطيع أن تحكم نفسها أو تستغل إمكاناتها وثرواتها، ولذلك لا بد لها من حاكم متسلط ولا بد لها من مستغل حليف، يثمن هذه الثروات المهدورة”.
إلا أنه ضمن ضباب هذه المرحلة المظلمة توجد بذور تمرد وانتفاضة تنمو في الأحشاء بصمت وبطء ولكن بشكل أكيد وحتمي، وعندما تحين ساعة الانتفاض تتفجر الطاقات التغييرية التي تفاجء أو ما تفاجئ الفئة المتسلطة داخليا وخارجيا، كما في حالة الربيع العربي مثلا.
أبرز مظاهر هذه المرحلة (مرحلة القهر) هو انتقال تبخيس إنسانية الإنسان المقهور من المتسلط إلى الإنسان المقهور نفسه في شكل مشاعر دونية وتأثيم، يرى من خلالها ـ مع مرور الوقت ـ أنه أهل لما نزل به من قسوة الطبيعة واستبداد المتسلط، وهنا يصبح حليفا له على نفسه.
لكن الإنسان المقهور الذي اقتنع بالدربة أنه يستحق تلك الدونية وذلك التسلط الممارس عليه، ما يلبث أن تنشأ بينه وبين أمثاله من المقهورين علاقة ازدراء ضمني، ثم يتحول عنده ذلك القهر إلى رغبة داخلية يسعى لممارستها على من تطالهم يده (أسرته ـ زوجته ـ أبناؤه).
الغريب في نفسية الإنسان المقهور في هذه المرحلة (مرحلة القهر والخضوع) هو تحولها من كره المتسلط إلى حبه وتقديره، إن الإنسان المقهور كلما احتقر نفسه ازداد إعجابه وتقديره للمتسلط، حيث يرى فيه إنسانا ذا خصائص إلهية تخوله حق السيادة والتمتع بكل الامتيازات، ومن هنا تنشأ حالات التقرب والاستزلام والتزلف والتقرب للمتسلط.
يعيش الإنسان المتخلف ـ حسب المؤلف ـ بين قهرين؛ قهر الطبيعة القاسية التي لا يجد سبيلا للتغلب عليها وقهر السيد المتسلط الذي لا مناص من الرضوخ له، إنه إنسان يعيش تحت القهر الطبيعي والقهر البشري، وبقدر ما “تتضخم أنا السيد وينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود، يصبح الأول أسير ذاته، وينحدر الثاني إلى أدنى سلم الإنسانية، ويصبح عنق علاقة التسلط مضافا ومتفاعلا مع قسوة الطبيعة واعتباطها”.
لكن المتسلط لا يشبع نهمه التسلطي ما يقدمه المقهور من قرابين الولاء والطاعة فيزدريه أكثر لرضوخه واستكانته وتبعيته، ويعتبر دونيته جزءا من طبيعته، ناسيا أنه لم يترك له أصلا إلا هذا الباب ليمارس من خلاله الحياة، فتراهم يقولون:”هؤلاء لا يحسون، إنهم لا يفهمون بالكلام، إنهم لا يمشون إلا هكذا…بالقوة، بالسوط…”.
ويشير المؤلف بعد هذا العرض المتسلسل لتطور العلاقة بين الإنسان المقهور والسيد المتسلط إلى أنه هذه العلاقة ليست جامدة بصفة مستديمة، فالإنسان المقهور وهو تحت نير الخضوع والرضوخ يحاول من خلال أساليب خفية (الكسل، التخريب) أو رمزية (النكات والتشنيعات) أن ينال من المتسلط، وهذا يعكس ازدواجية في العلاقة: رضوخ ظاهري، وعدوانية خفية.
يمكن اعتبار الكذب والتضليل الذي تخضع له الجماهير المقهورة نوعا من استخدام أساليب السيد المتسلط في الخداع، إنه كذب متبادل بين الطرفين، السيد يكذب في وعوده الجماهير بالإصلاح والخطط الإنمائية والأخلاق والرقي والتقدم والمستقبل الأفضل، والجماهير من جهتها تكذب على السيد المتسلط وهي تخلع عليه كل أوصاف السيادة والمروءة والصلاح والبطولة.
ثم يقوم الإنسان المقهور بتعميم ذلك الكذب على كل جوانب حياته، فينشأ وجود متخلف قائم على الكذب والخداع؛ كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في المعرفة، كذب الحرفي على الزبون، وحتى كذب في الإيمان. حينها يزدرى صاحب اللسان الصادق والنية الطيبة ويوصف بالسذاجة والتخبيل لأنه لم ينخرط في جوقة الكذب والادعاء والخداع السائدة.
من خلال انعدام الأمن والشعور بالرضوخ للمتسلط الطبيعي والبشري تنشأ مجموعة عقد تميز حياة الإنسان المقهور، هي: عقدة النقص، وعقدة العار، مع اضطراب الديمومة، هذه العقد مع غيرها من ملامح الوجود المتخلف وأبعاد النفسية العميقة للتخلف سنناقشها في موضوع مقالنا القادم بحول الله.