كان صدور موسوعة ” اليهود واليهودية والصهيونية” للمفكر عبد الوهاب المسيري عام 1999م حدثًا ثقافيا مدويا في حينه باعتبارها برهانا صادقا على قدرة العقل العربي على التصنيف الموسوعي ودراسة الظواهر دراسة متكاملة، لكن لم تكد تمضي سنوات قلائل حتى طواها النسيان، وفي ذكرى مضي عقدين كاملين على صدورها نسلط الضوء على دواعي صدورها وقضاياها ومنهجيتها ومعالم تفردها.
وقبيل الشروع في ذلك نلفت النظر إلى أن الموسوعة هي ثمرة عملية طويلة من التراكم المعرفي في دراسة الظاهرة الصهيونية قام بها المسيري وامتدت حوالي ثلاثين عاما من عمره فقد افتتح دراساته الصهيونية بكتابه “نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني” الذي صدر عام 1972، وأتبعه بإصدار “موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية” في مجلدين منتصف السبعينيات، وكانت بمثابة النواة الأولية لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ثم تتالت كتاباته على هذا الصعيد حتى توجت بصدور موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” في ثمانية مجلدات.
دواعي الموسوعة وأهدافها
يلفت المسيري الانتباه في القسم الأول من الموسوعة إلى أنه بعد مرور ما يقرب من خمسين عاما من الصراع العربي الإسرائيلي الرسمي، وما يزيد على مائة عام من الصراع التاريخي، لم يصدر – حتى الآن – معجم عربي واحد يُعرِف مصطلحات هذا الصراع ويفسر مفاهيمه، وخصوصا المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالعدو، سواء من جهة وضعه التاريخي أو من جهة رؤيته لنفسـه.
وقد أدى هذا الوضع إلى أن يبحث الباحث العربي عن المفاهيم اليهودية والصهيونية في المصادر اليهودية والصهيونية ذاتها التي قد تعطيه كمية هائلة من المعلومات ولكنها في نهاية الأمر متحيزة وموظفة في خدمة هدف معين، ولذا يظل الباحث العربي دائما تحت رحمة المصادر الصهيونية ومقولاتها التحليلية التي لا تكشف له من الظاهرة إلا تلك الجوانب التي يهمها كشفها، حاجبة عنه كل الجوانب الأخرى.
وانطلاقا من هذا استهدفت الموسوعة التعريف بالمصطلحات والمفاهيم اليهودية والصهيونية، وتوفير وتمحيص الحقائق التاريخية والمعاصرة عن الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، وتقديم رؤية جديدة للموضوعات التي تغطيها. وقد حاولت إنجاز ذلك من خلال عدة طرق:
– تقديم تاريخ عام للعقيدة والجماعات اليهودية وللحركة الصهيونية.
– التعريف الدقيق للمفاهيم والمصطلحات السائدة، والتأريخ لها من منظور جديد، وإبراز جوانبها الإشكالية.
– إسقاط المفاهيم والمصطلحات المتحيزة، وإحلال مفاهيم ومصطلحات أكثر حيادا وتفسيرية محلها، وعلى سبيل المثال: بدلا من الحديث عن “اليهود” بإطلاق تحدثت الموسوعة عن “الجماعات اليهودية” حيث اعتبرت أن اليهود جماعات تنتمي إلى فضاءات حضارية متعددة وبالتالي ليس هناك مجال للحديث عن اليهود وكأنهم كيان واحد رغم اختلاف الزمان والمكان.
– التمييز بين التاريخ المقدس الذي ورد في العهد القديم والتاريخ الزمني الذي يعيش في إطاره أعضاء الجماعات اليهودية. وانطلاقا من هذا، بينت الموسوعة أنه لا يوجد تاريخ يهودي عام وعالمي مستقل عن تواريخ البشر، وإنما هناك تواريخ لجماعات محلية مرتبطة بمجتمعاتها التي نشأت فيها.
محتويات الموسوعة وقضاياها
كما يتضح من عنوانها تركز الموسوعة على تاريخ العبرانيين القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية الحديث بامتداد بلدان العالم، وتعداداتها وتوزعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وتدرس علاقات أفرادها بالمجتمعات التي يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وتقدم كذلك تراجم لأشهر الأعلام من اليهود وغيرهم ممن ارتبطت أسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية.كما تتناول كل الجوانب المتعلقة بتاريخ الديانة اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها في العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية (معاداة اليهود). كما تغطي الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية.
المجلد الأول -وهو أهم المجلدات- يضم الإطار النظري العام، وفيه يشرح المسيري مفهوم “النماذج التحليلية” التي يتبناها في تفسير الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وينتقل ليوضح ثلاثة نماذج أساسية منها: العلمانية الشاملة، والحلولية، والجماعة الوظيفية، ثم يُعرف ببعض المفاهيم والمفردات المستخدمة، ويختتم المجلد ببحث بعض الإشكاليات النظرية التي تشوب النموذج المعرفي الغربي في دراسته للظواهر، ويركز تحديدا على إشكاليتي الإنساني والطبيعي والذاتي والموضوعي.
أما المجلدان الثاني والثالث فيتناولن الإشـكالات العامة المتعلقة بدراسة الشأن اليهودي فيدحض ما يسمى الطبيعة اليهودية الواحدة المطلقة في الزمان والمكان، ثم يتناول علاقة الجماعات اليهودية بحركة التحديث.
ومن التعميم في المجلدات الثلاثة الأولى إلى التخصيص بدءا من المجلد الرابع الذي يتناول تواريخ الجماعات اليهودية كلا على حدة في بلدان العالم ومختلف التشكيلات الحضارية، لذا كان التقسيم هنا جغرافيا؛ فهناك باب عن فرنسا وآخر عن إنجلترا وعدة أبواب عن روسيا وبولندا والولايات المتحدة.
ويتناول المجلد الخامس اليهودية فيتطرق إلى أهم الفرق اليهودية والمفاهيم والعقائد، على حين يتناول المجلد السادس الظاهرة الصهيونية تاريخيا وحركيا من خلال التركيز على رموزها المؤسسة ومفاهيمها المستخدمة، أما الفصل السابع فيركز على الدولة الصهيونية ويبحث في علاقاتها بالإمبريالية ويؤكد على ارتباطها بعدد من الظواهر مثل الاستيطان والإرهاب. أما المجلد الثامن والأخير فيضم آليات الموسوعة وملحقا خاصا بالمفاهيم والمصطلحات الأساسية وثبتا تاريخيا والفهارس الألفبائية.
خصائص الموسوعة وسماتها المعرفية
أولا: التفكيك والتركيب: الموسوعة عمل معرفي ضخم قائم على محاولة تفكيك المصطلحات والمفاهيم القائمة وتوضيح المضامين الكامنة وراءها بدلا من تلخيصها والعرض لها. وهي لا تكتفي بالوقوف عند مستوى التفكيك وإنما تتبعه بالتركيب؛ إذ التفكيك رغم فائدته في كشف التحيزات فإنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير -كما يرى المسيري- جوهر البحث العلمي وهو عملية إبداعية تركيبية تتطلب نحتا وخلق نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد المختلفة للظاهرة.
ثانيا: الترتيب الموضوعي: الموسوعة ليست مرتبة ألفبائيا وإنما موضوعيا؛ ذلك أن الترتيب الأبجدي يعني أن القارئ على علم بالمصطلحات والشخصيات ويريد المزيد من المعلومات عنها، أما الترتيب حسب الموضوعات فيعني أن القارئ لا بد أن يتدرج مع الموسوعة من الإشكالات والتساؤلات الرئيسة إلى محاولة الإجابة إلى العرض التاريخي.
ثالثا: التفسير والتحليل: الموسوعة ليست موسوعة معلوماتية، ومن ثم فهي لا تهدف إلى حشد أكبر قدر ممكن من المعلومات، انطلاقا من أنه لا يمكن أن الإحاطة بكل جوانب الواقع لو اقتصر جهدنا على جمع معلومات بشأنه، وفي المقابل تطرح الموسوعة فكرة التحليل والتفسير عبر النماذج بحسبانها طريقة أكثر كفاءة من الطرق الأخرى في عملية رصد الواقع ودراسته وفي تنظيم المعلومات وتصنيفها وفي كيفية استخلاص النتائج منها.
رابعا: استعادة الفاعل الإنساني والقيمة: حاولت الموسوعة أن تستعيد الفاعل الإنساني وتركيبيته، وأحد العناصر الأساسية هو تأكيدها البعد الإنساني العام في الظواهر اليهودية الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إخفائه، وحاولت قدر الإمكان أن تتجنب ادعاء الخصوصية والتفرد اليهوديين، ولكنها في الوقت ذاته لم تسقط في التعميم. وهي في هذا تنحى منحنى مغايرا لما ذهبت إليه العلوم الإنسانية والاجتماعية من تركيزها على الجوانب المادية واستبعادها الفاعل الإنساني.
من جهة ثانية حاولت الموسوعة أن تؤكد على ضرورة حضور البعد الغيبي في دراسة الظواهر ولكنها تشدد على المسـافة التـي تفصل الخالق عن المخلوق، وسعت إلى طرح حل لمشكلة القيم في العلوم الاجتماعية، معتبرة أن القيم الأخلاقية موجودة ولا يمكن أن تختفي ويحتكم إليها الفاعل الإنساني ولكنها لا تتجسد في الواقع، ومن ثم فهي لا تخضع للبحث التطبيقي رغم تبديها في سلوكيات الناس وتطلعاتهم.
خامسا: التعامل مع الأبعاد الكلية والنهائية: لم تقتصر الموسوعة على طرح تساؤلات مباشرة بالظاهرة الصهيونية التي تبحثها، وإنما تعدتها لتلامس الأبعاد الكلية والنهائية حين طرحت بعض التساؤلات الفلسفية من قبيل: ماذا يحدث للإنسان في عالم بدون إله؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم نسبي لا توجد فيه ثوابت ولا مطلقات ولا قيم عالمية؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم توجد فيه حقائق بلا حقيقة ولا حق؟ وما هو مصير الإنسان في عالم انفصل فيه العلم عن القيمة وعن الغائية الإنسانية؟.
ورغم ما تفردت به الموسوعة من خصائص فإنها تظل عمل إنساني يخضع للنقد، ومن الانتقادات التي يمكن توجيها إليها هو عدم التوثيق وخلوها تماما من المصادر، واستخدامها مصطلحات فلسفية معقدة من نحت المسيري مما يصعب عملية الإفادة منها.
المحصلة، أن الموسوعة هي عمل موسوعي استهدف دراسة الظاهرة اليهودية انطلاقا من رؤية عربية إسلامية، وهي محاولة يمكن محاكاتها والبناء عليها في محاولة تأسيس علوم إنسانية عربية بشكل منهجي.