من المعلوم أنه قد اختلفت أقوال العلماء في حكم الاشتغال بالمنطق، ما بين مُحَرِّم، ومُجيز، ومُوجب… ومن أشهر العلماء الذين حرموا الاشتغال بالمنطق ابن الصلاح في فتوى له، وتبعه على ذلك النووي رحمهما الله جميعا، ومن أشهر الذين ألفوا في ذم المنطق ونقض قواعده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له في ذلك جواب مختصر طُبع باسم “نقض المنطق”، ثم طُبع بعنوان “الانتصار لأهل الأثر”، وله كلام مفصل في كتابه “الرد على المنطقيين” والمسمى أيضا ب “نصيحة أهل الإيمان في الرّدّ على منطق اليونان”، والذي اختصره السيوطي في كتابه “جَهْدُ القريحة في تجريد النصيحة”، ثم ألف السيوطي في ذلك مؤلفا مستقلا سماه “صَوْنُ المنطق والكلام عن فَنَّي المنطق والكلام”، وبَيَّنَ فيه علة تحريم ابن الصلاح لعلم المنطق، وكان قد ألف قبل ذلك كتابا سماه: “القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق”، وهي فتوى كانت جوابا عن سؤال ذكر فيها أسماء من ذم المنطق من علماء المسلمين، فذكر من غير حصر ما يزيد عن أربعين عالما من مختلف المذاهب الفقهية([1]).

والذي دعاني إلى كتابة هذه الأسطر أنِّي رأيت كثيرا ممن يُدَرِّس المنطق-وبعضُهم من فُضَلاء أهل السنة وعلمائهم- يزعم أن المنطق الذي حَرَّم الاشتغال به وذمه هؤلاء العلماء؛ إنما هو المنطق المشوب بالفلسفة، وأما المنطق الذي خَلَّصه العلماء من أقوال الفلاسفة، وشوائب الفلسفة -بزعمهم- فإنه لا خلاف في مشروعية الاشتغال به، بل حكى بعضهم الإجماع على مشروعيته، وادعوا أنه لا يمنع من دراسته وتدريسه إلا من جَهِلَه، ومن جَهِلَ الشيء عاداه([2]).

فما مدى صحة هذا الزعم؟ وهل المنطق الذي ألف شيخ الإسلام في نقض قواعده، وأفتى ابن الصلاح قبله، والسيوطي بعده بتحريم الاشتغال به هو المنطق المشوب بشبه الفلاسفة فحسب؟ وإذا كانوا قد حرموا المنطق مطلقا فما مستندهم في ذلك؟ وما علة قولهم بتحريم الاشتغال به؟

للجواب عن هذه الأسئلة نحتاج إلى النظر في كلام هؤلاء العلماء بإنصاف وموضوعية، حتى لا ننسب إليهم ما لم يقولوا به، مُتَوِخِّينَ في ذلك الأمانة العلمية، والنقاش العلمي الهادئ، المتجرد من التقليد والعصبية، والأحكام المسبقة …

وهذا كله بغضِّ النظر عن موقف القارئ من الرأي المحرم، فإن نسبةَ الأقوال إلى غير قائليها غيرُ جائز بإطلاق، وتقييدُها بغير مقيد تَحَكُّم باتفاق…

ولتكن البداية مع فتوى ابن الصلاح رحمه الله، المنشورة ضمن فتاواه (1/209):

فتوى ابن الصلاح

إن الناظر في فتوى ابن الصلاح بإنصاف لا يجد فيها ما يساعد على تقييد فتواه بمنطق (مشوب بشبه الفلاسفة) دون منطق (مُخَلَّص من شبه الفلاسفة) ، بل يجد القرائنَ كلَّها تدل على أن حكمه بتحريم الاشتغال بالمنطق لم يكن مقيدا بالمنطق المشوب بشبه الفلسفة، ومن تلكم القرائن:

أولا: الإطلاق الذي ورد في سؤال السائل، ثم في جواب الشيخ رحمه الله:

حيث قال السائل: “هل الْمنطق جملَةً وتفصيلا مِمَّا أَبَاحَ الشَّارِع تَعْلِيمه وتعلمه، وَالصَّحَابَة والتابعون وَالْأَئِمَّة المجتهدون وَالسَّلَف الصالحون ذكرُوا ذَلِك؟ أَو أباحوا الِاشْتِغَال بِهِ؟ أَو سوغوا الِاشْتِغَال بِهِ أم لَا؟ ”

فالسائل يسأل عن المنطق جملة وتفصيلا، ولا يقصد بالسؤال منطقا دون منطق…

فكان جواب ابن الصلاح رحمه الله بعد ذمه الشديد للفلسفة، قائلا: “الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة…”.

ثم قال في المنطق مُطْلِقاً الجَوَابَ غَيْرَ مُقَيِّدٍ وَلا مُفَصِّل: “…وَأما الْمنطق فَهُوَ مدْخل الفلسفة، ومدخل الشَّرّ شَرّ، وَلَيْسَ الِاشْتِغَال بتعليمه وتعلمه مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع، وَلَا استباحه أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين، وَالسَّلَف الصَّالِحين، وَسَائِر من يَقْتَدِي بِهِ من أَعْلَام الْأَئِمَّة وسادتها، وأركان الْأمة وقادتها قد برأَ اللهُ الْجَمِيعَ من مَعَرَّة ذَلِك وأدناسه، وطَهَّرهم من أوضاره”,

قلت: لو كان ابن الصلاح يفرق بين المنطق المشوب بالفلسفة وبين غيره لَفَصَّل الجواب، ولما أفتى بالتحريم جملة وتفصيلا. ولو طُرِحَ هذا السؤال على المدافعين عن المنطق والمدرسين له لاضطروا للتفصيل والتفريق بين المنطق المشوب وغير المشوب… فلو كان ابن الصلاح يعتقد هذا التفريق لما جاز له أن يُجْمِل الجواب في مقام يقتضي التفصيل…

خاصة إذا كان الحكم يتعلق بِعِلْمٍ يَدَّعِي أَصْحَابُه أنه يعصم الفكر عن الضلال، وأنه للجنان بمنزلة النحو للسان!!!

وبالأخص إذا علمنا أن المنطق في زمن ابن الصلاح (643هـ) يزعم المدافعون عنه أن العلماء وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي (505ه) كانوا قد جردوه من شبه الفلاسفة، وردوها عليهم كما فعل الغزالي في كتابه: “تهافت الفلاسفة” الذي رد فيه على شبه الفارابي وابن سينا، واللَّذَيْن هما أبرز الفلاسفة المنتسبين للإسلام، الذين اشتغلوا بالمنطق وألفوا فيه.

فابن الصلاح لم يفرق بين مشوب وغير مشوب، ولكنه علل حكمه بكون المنطق مدخلا للفلسفة، ولو كان يقصد بحكمه المنطق المشوب بشبهها، لقال: “المنطق المخلوط بشبه الفلاسفة…”، لكنه قال عوض ذلك ” المنطق مدخل للفلسفة“…

ثانيا: قول ابن الصلاح: ” المنطق مدخل للفلسفة”: يدل أن مستنده في التحريم هو سد الذريعة؛ لأن المنطق هو آلة الفلسفة وعلم الكلام، وتعلم الاشتغال بهذه الآلة يفتح الباب لاستعمالها من أجل الخوض فيما خاض فيه الفلاسفة من المباحث الفلسفية. كما لو علَّمتَ إنسانا كيفية استعمال آلات النجارة، فإن ذلك يفتح له باب استعمالها عندما تُتاح له الفرصة، وكما لو علمت إنسانا السياقة والسباحة فإنه يكون مُتَشَوِّفاً ومُتَشَوِّقاً إلى تطبيق ما تعلمه، مع علمه بما في ذلك من المخاطرة؛ ولهذا حرم الشرع تعلم السحر، بل جعل مُجَرَّدَ تَعَلُّمِه كُفْراً، كما قال تعالى:﴿وَمَا يُعَلِّمَٰنِ مِنَ اَحَدٍ حَتَّيٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾[البقرة: 101]، وذلك لأن تعلمه وسيلة إلى إعماله، والوسائل لها أحكام المقاصد… فيظهر من هذا أن فتوى ابن الصلاح مبنية على فقه عميق، ونظر بعيد في العواقب والمآلات؛ وذلك أنه نظر إلى عاقبة من خاض في المنطق من الفلاسفة فوجده قد انتهى بهم إلى الكفر والزندقة، ونظر إلى من خاض فيه من المتكلمين فوجده قد انتهى بهم إلى التخبط والحيرة، مع أنهم قصدوا بالدخول فيه ابتداءً الذب عن الدين والرد على الفلاسفة، فلا هم للدين نصروا، ولا هم للفلاسفة كسروا؛ بل إنهم قد أقروا أن علم الكلام، -والمنطق أداته وآلته- لا يتوصل به إلى اليقين، بل يوقع في الحيرة والتخبط وفي ذلك قال الغزالي في سياق كلامه عن علم الكلام: ” … ‌وأما ‌منفعته فقد يُظَنُّ أن فائدتَه كشْفُ الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات!! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من مُحَدِّث أو حَشْوِيّ ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود”([3]).

ونحو ذلك قوله في معرض كلامه عن علم الكلام: ” … والدليل على تضرر الخلق به -يعني علم الكلام- : المشاهدة والتجربة، وما ثار من الفتن بين الخلق منذ نبغ المتكلمون، وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة رضي الله عنهم عن مثل ذلك”([4]).

وفي ذلك قال الفخر الرازي أبياته الشهيرة:

نِهَايَةُ ‌إِقْدَامِ ‌الْعُقُـــــــــولِ عِقَــــالُ
وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالِمِينَ ضَــــــــلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَـــا
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَــــــــــــــــــــالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُــمْرِنَا
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَـــــالُوا ([5])

فإذا كان هذا كلامَ الغزالي (505ه) والرازي (606ه) بعدما بلغا الغاية في الكلام والمنطق، فلا عجب بعد ذلك أن يُفتي ابن الصلاح (643ه) بعدهما بتحريم الخوض في علم ضرره أكبر من نفعه، ونهايته الحيرة والتخبط والضلال.

ولا يقولن قائل هذا الكلام يتوجه إلى “علم الكلام”، وموضوعنا “المنطق”؛ فإنه إذا كان “علم الكلام” – كما قال ابن خلدون-: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”([6])؛ فإن المنطق هو أداة ذلك الحجاج وآلته، فالكلام والمنطق صنوان لا يفترقان، بل هما أَخَوَا لِبَان، وأُمُّهُمَا فلسفة اليونان، ولهذا قرن بينهما ابن الصلاح في الفتوى، مُلحقا الوسيلة بمقصدها في الحكم، معبرا عن ذلك بقوله: “مدخل الشَّرّ شَرّ“.

وفي فتوى ابن الصلاح قرائن أخرى كلها تدل على ذمه للمنطق مطلقا من غير تفصيل.

3-القرينة الثالثة: استنكار ابن الصلاح استعمال “المصطلحات المنطقية” في المباحث الشرعية:

حيث قال جوابا على سؤال السائل: “وَهل يجوز أَن يسْتَعْمل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرِيعَة الاصطلاحات المنطقية أم لَا؟ وَهل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مفتقرة إِلَى ذَلِك فِي إِثْبَاتهَا أم لَا؟”

قال -رحمه الله- : “وَأما اسْتِعْمَال الاصطلاحات المنطقية فِي مبَاحث الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَمن الْمُنْكَرَات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وَلَيْسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة -وَالْحَمْد الله- افتقارٌ إِلَى الْمنطق أصلا “.

قلت: كلام ابن الصلاح هنا عن المصطلحات المنطقية نفسِها، وليس عن شبه الفلاسفة التي تخالط المنطق، فابن الصلاح سدَّ ذريعتها أيضا، ولم يقل :”لا مشاحة في الاصطلاح”، ولم يقل: “هذه مجرد تعاريف واصطلاحات لا ضرر فيها”، ولم يقل: “وأي ضرر في تعريف التصور والتصديق؟!” مكتفيا بما يظهر لقاصر النظر بادي الرأي من كونها تعاريف بريئة؛ ولكنه نظر في العواقب والمآلات؛ وذلك لأن الواقع قد أثبت أن استعمال المنطق في المباحث الشرعية يؤدي إلى البدعة في الأصول، وإلى الخطإ في الفروع، كما قال السيوطي: “من أراد تخريج القرآن والسنة والشريعة على مقتضى قواعد المنطق لم يصب غرض الشرع ألبتة، فإن كان في الفروع نُسِب إلى الخطأ، وإن كان في الأصول نُسِب إلى البدعة”([7]).

4-القرينة الرابعة: انتقاد ابن الصلاح لحدود المنطق وبراهينه التي يتباهى بها أصحابه:

قال في جوابه: “… وَمَا يزعمه المنطقي للمنطق من أَمر الْحَدّ والبرهان فقعاقع قد أغْنى الله عَنْهَا بِالطَّرِيقِ الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر كُلَّ صَحِيح الذِّهْن ، لَا سِيمَا من خدم نظريات الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة”.

قلت: انتقد ابن الصلاح الحدود والبراهين المنطقية من وجهين:

-الوجه الأول: أنها “قعاقع”: في إشارة إلى ما فيها من تعقيد وركاكة في العبارة…

وخذ على سبيل المثال قولهم في أمثلة القياس الاستثنائي: “كلما كانت الشمس طالعة كانت الأرض مضيئة، ولكنَّ الشمس طالعةٌ؛ فالأرض مضيئة”. ونحو ذلك من الكلام الذي يُشْعِرُك أَنَّكَ أمام ترجمة حرفية ركيكة.

-الوجه الثاني: عدم الحاجة إليها: في إشارة إلى أن ما صح منها يدركه صحيح الذهن بفطرته.

وفي هذين الوجهين انتقادٌ وهدمٌ للمنطق جملةً وتفصيلا، بتصوراته وتصديقاته؛ وذلك لأنه انتقد الحدود التي هي طريق إدراك التصورات، وانتقد البراهين التي هي طريق إدراك التصديقات…

5- القرينة الخامسة: رد ابن الصلاح على من يدعي افتقار العلوم الشرعية إلى المنطق:

قال رحمه الله: ” وَلَقَد تمت الشَّرِيعَة وعلومها وخاض فِي بحار الْحَقَائِق والدقائق علماؤها حَيْثُ لَا منطق وَلَا فلسفة وَلَا فلاسفة”

قلت: وأما المهوسون بالمنطق فيدعون أنه ميزان العلوم جميعها، وأن العلوم كلها مفتقرة إليه، وهو غير مفتقر إليها، بل زعم غلاتهم أن من لم يشتغل بالمنطق فلا يوثق بشيء من علومه…

كلُّ هَذِه التهاويل نسفها ابن الصلاح بالتنبيه إلى أن فطاحل العلماء في كل علم من العلوم الشرعية قد بلغوا الغاية فيها، وذلك قبل أن تُتَرجم كتب المنطق والفلسفة في عهد الدولة العباسية، نعم! مِن هؤلاء العلماء من أدرك زمن الدولة العباسية لكنه لم يدرس المنطق ولا عرفه حتى لقي الله؛ ومن هؤلاء العلماء الفطاحل، الذين بلغوا الغاية في تخصصاتهم، والذين عَوَّل عليهم في فنونهم كل من جاء بعدهم: شموس القراءات العشرة، وأئمة المذاهب الأربعة، وحفاظ الحديث الجهابذة، وأساطين اللغة العربية…

6-القرينة السادسة: رد ابن الصلاح على من يدعي الاشتغال بالمنطق لما فيه من الفائدة المتوهمة:

قال رحمه الله: ” وَمن زعم أَنه يشْتَغل مَعَ نَفسه بالْمَنْطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشَّيْطَان ومكر بِهِ”.

قلت: في كلامه رحمه الله إشارة إلى الرد على من يزعم أن المنطق عظيم الفائدة، وأنه للجنان بمنزلة النحو للسان، وأنه يعصم الفكر عن الزلل والهذيان…

ومما يدل على صدق كلامه رحمه الله:

-أن المنطق الأرسطي لم يعصم واضعَه -أرسطو- من الكفر والضلال، ولم يمنعه من القول بقدم العالم، ولا عصمه من السحر وعبادة الأوثان…

-أنه قد اشتغل بالمنطق فلاسفة المسلمين بدعوى الرد على فلاسفة اليونان الملحدين فلم يعصمهم من الكفر والزندقة، حتى وُجد منهم من ألف في السحر وعبادة النجوم مثل الفخر الرازي قبل توبته، ووُجد منهم من يقول بقدم العالم، وينكر علم الله بالجزئيات، وينكر معاد الأبدان كابن سينا، وَوُجد منهم من يزعم أن الفيلسوف أكمل من النبي كالفارابي الملقب عندهم بالمعلِّم الثاني…

-أنه قد اشتغل بالمنطق المعتزلةُ ليردوا على الفلاسفة فما عصمهم المنطق من الغواية والضلالة، وحملهم على إنكار أسماء الله وصفاته بدعوى تحقيق التوحيد، وإنكار القضاء والقدر بدعوى تنزيه الله عن الظلم…إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة.

-ثم اشتغل بالمنطق الأشاعرةُ ليردوا على المعتزلة فأفضى بهم ذلك إلى الانحراف عن الجادة، وعدل بهم عن سبيل السلف الصالح، فعطلوا صفات الله الذاتية بدعوى توحيد الذات، وعطلوا صفات الله الفعلية بدعوى تنزيه الله عن الحوادث، وأنكروا علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه….

فكيف يوصف علم هذا حاله بأنه ميزان العقول، وأنه يعصمها من الانحراف والزلل في باب المعقول…

7-القرينة السابعة : أن ابن الصلاح قد ختم فتواه بما يؤكد الصلة الوطيدة بين المنطق والفلسفة: ولم يفرق بينهما في الحُكم، مع أن السائل سأل عن كل واحد منهما، فقال: “…وَمَا الْوَاجِب على من تلبس بتعليمه وتَعَلُّمِه متظاهرا بِهِ (يعني المنطق)؟ مَا الَّذِي يجب على سُلْطَان الْوَقْت فِي أمره؟ وَإِذا وجد فِي بعض الْبِلَاد شخص من أهل الفلسفة مَعْرُوفا بتعليمها، وإقرائها، والتصنيف فِيهَا، وَهُوَ مدرس فِي مدرسة من مدارس الْعلم، فَهَل يجب على سُلْطَان تِلْكَ الْبِلَاد عَزله وكفاية النَّاس شَره؟”

قال رحمه الله: “…فَالْوَاجِب على السُّلْطَان -أعزه الله وأعز بِهِ الْإِسْلَام وَأَهله- أَن يدْفع عَن المسملين شَرّ هَؤُلَاءِ المشائيم (يعني الفلاسفة)، ويُخرجهم من الْمدَارِس، ويبعدهم، ويعاقب على الِاشْتِغَال بفنهم، ويعرض من ظهر مِنْهُ اعْتِقَاد عقائد الفلاسفة على السَّيْف أَو الإسلام؛ لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم، يسر الله ذَلِك وعَجَّله! وَمِن أوجب هَذَا الْوَاجِب عزلُ من كَانَ مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فِيهَا والإقراء لَهَا، ثمَّ سجنه، وإلزامه منزله، وَمن زعم أَنه غير مُعْتَقد لعقائدهم فَإِن حَاله يكذبهُ وَالطَّرِيق فِي قلع الشَّرّ قلع أُصُوله، وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملَة . وَالله تبَارك وَتَعَالَى ولي التَّوْفِيق والعصمة وَهُوَ أعلم”.

قلت: السائل سأل عن حكم من يُعَلِّم المنطق والفلسفة، فجاء جواب ابن الصلاح شديدا فيمن يُعَلِّم الفلسفة، ولم يصرح بحكم من يُعَلم المنطق؛ وذلك لأنه يعتبر المنطق مدخلا للفلسفة، و”مدخل الشر شر“-كما تقدم من كلامه-، فهما عنده مرتبطان ارتباطَ العلة بمعلولها، والوسيلة بمقصودها.

ومما يدل على عدم إمكان التفريق بين المنطق والفلسفة:

-أن واضع المنطق هو الفيلسوف اليوناني: أرسطو، وهذا مما لا خلاف فيه.

-أن أرسطو وضع قواعد منطقه بناءً على فلسفته، ومن يظن أن المنطق الأرسطي منفصل عن فلسفته فهو واهم أو غافل… بل هو مرتبط ارتباطا وثيقا بأصوله الفلسفية ، وبمذهبه الميتافيزيقي([8]).

-أن المنطق يعتبر جزءا من الفلسفة عند طائفة من الفلاسفة ، وآلة لها عند آخرين([9])، ولا تناقض بين القولين، فهو منها وإليها.

-أن فساد أصول الفلاسفة يرجع إلى فساد القواعد المنطقية التي بنوا عليها فلسفتهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ([10]).

وبالجملة فالذي يروم الفصل بين المنطق والفلسفة كالذي يريد أن ينفي الولد عن أمه الشرعية، فأنى له ذلك، وقد حملته في بطنها، وسقته من ثديها حتى نبت لحمه، ونشز عظمه من لبنها، وانتقلت إليه صفاتها وَجِينَاتُها؟! فمن يدعي تخليص المنطق من شوائب الفلسفة إنما يقصد تجريده من شبه الفلاسفة وكفرياتهم الظاهرة، والتي ربما امتزجت بالقواعد المنطقية عند التطبيق والتمثيل، وأما ما هو كامن في تلك القواعد نفسها من جذور فلسفية فيستحيل تخليص المنطق منها، ولا يُؤْمن أن تظهر تلك الشوائب مرة أخرى، تماما كما تختفي بعض صفات الآباء في الأبناء، ثم سرعان ما ينزعها عرق فتظهر في الأحفاد والأجيال اللاحقة…