في حديث “إنما الأعمال بالنيات..” يؤكد النبي ﷺ على أهمية النية في حركة المسلم وسيره إلى الله، سواء فيما افترضه عليه من عبادات، أو ما ألزمه به عند معاملة الغير.
ومادام المسلم يبتغي بعمله رضا الله ورسوله وثواب الآخرة، وهما بلا شك مقصدان عظيمان، فقد شدد النبي ﷺ على أن السلوك خاضع للمؤشر القلبي الذي تحدده النية، فمن كانت هجرته لله ورسوله فنِعمَت الهجرة، ومن كانت غايته دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فبئس الجهد الذي لا يطمح صاحبه في غير حطام الدنيا وزينتها!
وللهجرة سعيا خلف امرأة قصة يحكيها ابن مسعود رضي الله عنه إذ يقول: من هاجر يبتغي شيئا فله ذلك. هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، فكان يقال له : مهاجر أم قيس.
ويروي الطبراني عن الأعمش خبرا آخر مفاده أن رجلا خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
شكلت الهجرة آنذاك امتحانا عسيرا للجماعة المسلمة الأولى، لأن الأمر لا يتعلق بالانتقال من بلد إلى آخر، وإنما التضحية بالمال والأهل والولد، ثم قطعُ المفاوز بين مكة ويثرب مُعرضين أنفسهم لشتى المخاطر استجابة لأمر الله ورسوله. أما أن يتعرض المرء لذاك المحك القاسي طمعا بالزواج من امرأة فتلك مصيبة يجدر بصاحبها أن يتلقى التعازي !
يضج واقعنا المعاصر بتجليات عديدة لمُهاجر أم قيس، أعني أفرادا يبذلون جهودا حثيثة، ومساعي مبهرة، ومنهم من يبذل دمه ويسترخص حياته، لكن لأجل مرامي لا قيمة لها ولا طائل تحتها، أو لغايات أقل شأنا ولا تستلزم كل تلك التضحيات. وهنا تكمن أهمية حديث “النيات” من حيث رفع السقف، وتثمين الجهد الإنساني عبر وصله بنظام المكافأة الإلهية التي عبر عنها النبي ﷺ في مناسبة أخرى بقوله: ” ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة “.
لا يحتاج المرء إلى دليل أو شاهد بأن بذل الجهد واقتحام العقبة يرتبط مسبقا بغاية عليا أو طموح كبير. والعاقل من يجيد تحديد الغاية التي تستحق الجهد المبذول، سواء بقياس عقلي أو دليل نقلي. إنه الطرح الذي قاربه بعض أهل العلم تحت مسمى “بذل الخسيس لأجل النفيس”، ففي مصنف (الإفادات و الإنشادات) لأبي إسحق الشاطبي نقرأ أن الفخر بن الخطيب سأل سيف الدين الآمدي قائلا: لِم أجاز الشرع ذبح الحيوان في حق الإنسان وهو تعذيب له، وتعذيب الحيوان على خلاف المعقول؟ فأجاب سيف الدين: إتلاف الخسيس في حق النفيس من مناهج العقول!
لكن في أيامنا هاته فارقت العقول مناهجها، فصار النفيس مطية لبلوغ الخسيس أو الأخس منه، وأهدر الإنسان كرامته وشرف استخلافه باتباع الهوى، وقلب الموازين لتصبح الوسيلة غاية لذاتها.
إن مما يُسأل عنه المسلم يوم القيامة: شبابه فيم أفناه؟ فهذه المرحلة العمرية التي تتسم بالقوة و النشاط، واكتمال مقومات الرجولة، تقتضي من الشباب أن يبذلوها في العبادات ضمن أوسع مدلولاتها، سواء الروحية أو السلوكية أو الحضارية، أو كل ما يمت للاستخلاف والإعمار بِصلة. غير أن ما نعاينه في الواقع يُكرس تبعية مؤلمة لبعض الصيغ المدمرة التي ارتضاها الإعلام لشباب الأمة، حيث الدعوة للاستمتاع وإشباع الغرائز، وهدر الوقت والجهد فيما لا يعود بنفع عام أو حتى خاص. وتمكنت من النفوس قناعات مفادها أن التدين خلاصة شعائر يؤديها المرء حين يستوفي حاجاته و مطلوباته من الدنيا. وأن بيوت الله ليست سوى مأوى للعجزة الذين نالوا نصيبهم من الحياة، ويتلمسون ظلا يأوون إليه في انتظار الساعة !
وقصص الحب كما تعرضها الدراما التلفزية تجلٍّ آخر لانقلاب الموازين. فلم يعد الحب وسيلة لغاية أرحب هي تأسيس البيت المسلم، وتوطيد مشاعر دافئة للتغلب على مشكلات الحياة، بل صار مواجهة محتدمة تدمر كل شيء بأمر الصبابة، وتستل خنجر الأنانية لتطعن الأخلاق والأعراف المجتمعية في مقتل !
ولدفع تهمة الإرهاب التي ألصقت ظلما وعدوانا بالإسلام، فقد آثر مهاجر أم قيس أن يبحث عن البديل في ارتكاب المعاصي، أو التخفيف من الطاعات درءا لكل شبهة .وانحصرت مهام البناء الاجتماعي لدى البعض في طرد الجن، وتحويل الرقى الشرعية إلى صكوك توزع على أرباب المقاهي والمطاعم ،وصالات الرياضة لتحل البركة.
ولتمكين المرأة من وضع حقوقي مساو للرجل ،ارتأى مهاجر أم قيس أن يتخلص من تبعات بر الوالدين وصلة الرحم وإيتاء ذي القربى ،طاعة للزوجة التي تضع على عنقه سيف الخُلع والنفقة، و”الجرجرة” في المحاكم. فتواترت قصص العقوق الحداثي الذي لم يقتصر على “أف” ،بل امتد إلى رمي الوالدين في دور العجزة أو قتلهما بدم بارد.
إن جزءا كبيرا من متاعبنا وهمومنا، ومشكلاتنا التي لم نجد لها حلا سوى المُسَكنات، راجع إلى بذل النفيس لأجل الخسيس، وقلب الموازين لتصبح الآخرة سلما نبتغي به عرضا من الحياة الدنيا. وإذا كان مهاجر أم قيس قد جعل من الهجرة سبيلا لنكاح امرأة، ففينا اليوم من هجر الدين برمته لأنها شغفته حبا !