برزت في الآونة الأخيرة الحاجة إلى استدعاء “التزكية الروحية” أو “التصوف”، خاصة مع الأزمات المتعددة التي يمر بها عالمنا، وتضغط على الإنسان وترهقه.. وهو ما دعا البعض ليعتبر “الجانب الروحي” في الإسلام أحدَ المداخل المهمة لمخاطبة الإنسان المعاصر؛ بعد أن شقي بماديته، وتاه في فراغ روحي.
فما حقيقة مصطلح “التزكية” أو “التصوف”؟ وهل كان الإرث الذي حُمِّل به مصطلح “التصوف” مانعًا من انتشار “التزكية” كمنهج وممارسة صحيحة؟ وكيف يمكن فك الارتباط بين التصوف الفلسفي والسلوك الروحي؟ وكيف نتجنب الانحرافات التي تحدث للبعض أثناء تعرفه على الإسلام من خلال تراثه الروحي؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي طرحناها على د. نبيل فولي محمد، أستاذ المنطق وعلم الكلام بكلية العلوم الإسلامية في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية بإسطنبول، ورئيس قسم العقيدة والفلسفة في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد سابقًا.
ونبيل فولي حصل على الماجستير والدكتوراه من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وطُبعت له عدة كتب؛ منها: أخلاق الرسولﷺ في الحرب.. قيم الحضارة في الإسلام دراسة من خلال السنة النبوية.. علم المنطق مقاصد ومسائل وتطبيقات.. إضافة إلى نشر أكثر من عشرين بحثًا محكمًا، وعشرات المقالات بالصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية.. فإلى الحوار:
لو بدأنا بتحرير مصطلح التصوف أو التزكية، فماذا نقول؟
الصوفي والتصوف نسبتان لغويتان إلى لباس الصوف الذي كان رمزًا للفقر والزهد في تلك القرون، وهذا ما خلص إليه الباحثون في أصل إطلاق هذا المصطلح على من يمارسون هذا النوع من النشاط العلمي والعملي.
وأما النسبة إلى الصفاء وأصحاب الصُّفة وأشباه ذلك، فقد قال بها بعض المشايخ قديمًا لا لإثبات معلومة تاريخية، ولكن لتعريف حقيقة هذا النشاط، وأنه يقوم على تصفية الباطن وتخليته من الكدر، وأن هؤلاء أشبه ما يكونون بأصحاب رسول الله ﷺ الذين بنى لهم عريشًا أو مكانًا مظللاً داخل مسجده، وكانوا فقراء شديدي الحاجة لا مأوى ولا أسرة لهم، فصاروا ضيوف الإسلام.
ويقترح البعض مصطلح “التزكية” بديلاً عن “التصوف”، داعين إلى نبذ هذا الأخير. والمسألة في رأيي اصطلاحية، وهم يشبهون في هذا من يدعو إلى استعمال مصطلح “علم التأويل” بدلاً عن “علم التفسير”؛ لا لشيء إلا لأن الثاني ورد في القرآن دون الأول، وأسماء العلوم- ومنها التصوف المختص بدراسة أعمال القلوب- مسألة فنية اصطلاحية؛ أي يتفق عليها أهل الفن الذي تنتمي إليه، والمهم هو النظر في محتوى هذا العلم ما دام يدور حول أمر من أمور الشريعة، فما وجدناه منه موافقًا للكتاب والسنة أخذناه، وما عداه رددناه على أهله وهجرناه، كما فعل أسلافنا من أهل العلم.
ولا يمنع هذا من أن نعرج على مصطلح التزكية الذي عدته الشريعة إحدى المهمات الثلاث الكبرى للرسالة المحمدية؛ فالله تعالى يقول في كتابه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (الجمعة: 2)؛ أي يقرأ عليهم ما نزل عليه من وحي السماء كما تلقاه من فم أمين الوحي عليه السلام، {وَيُزَكِّيهِمْ}؛ أي يربيهم ويطهر نفوسهم وقلوبهم وأخلاقهم مما يعلق بها من أمراض ويرتفع بها فوق أهوائها ورغباتها الدنيا، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} أي فقه الكتاب وكيفية فهمه، {وَالْحِكْمَةَ} أي السنة الماثلة في فعله وقوله عليه الصلاة والسلام.
ويلاحظ هنا أنها مهمات متكاملة؛ أي أنها أجزاء منظومة واحدة، لا يغني بعضها عن بعض.
هل الإرث الذي يبدو مصطلح “التصوف” محمَّلاً به، كان مانعًا من انتشار “التزكية” كمنهج وممارسة صحيحة؟
التصوف عندنا ظاهرة إسلامية كبيرة جدًّا، فيها ما يمدَح، وكذلك فيها ما يعاب، وقد استفاد المسلمون منه منذ نشأ، وتضرروا من بعض سلبياته كذلك. والذي يلاحَظ هو أن سلبيات بعض الممارسات والأفكار الصوفية لم تحل دون استفادة نقاد التصوف منه استفادة واسعة؛ فابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم كانوا من أشد نقاد السلبيات الصوفية، مثل القول بوحدة الوجود والمبالغة في الزهد والتقشف، ومع ذلك هم من أكثر الناس انتفاعًا في كتبهم بالتراث الصوفي الضخم.
وقد نشأ في زماننا من يريد أن يرمي التصوف برمته في زوايا النسيان والإهمال. ولو نظرت فيما يقرأ لرأيته يقدم ابن القيم على غيره؛ وما تراث ابن القيم في أعمال القلوب إلا نتاج تفاعل ملكات الرجل العلمية مع الكتاب والسنة والتراث الصوفي الموافق لهما، وهو تراث ضخم من حيث حجمه، وثري من جهة قيمته.
كيف يمكن فك الارتباط بين التصوف الفلسفي والسلوك الروحي، لصالح إحياء التصوف كمنهج عمل منضبط بالكتاب والسنة؟
أنا ممن يدعون إلى الاهتمام العلمي بالتصوف كله؛ يُدرَس وتُبحَث أفكاره وآراؤه، ولكن على مستوى التربية والتأديب والتطبيق لا نقبل إلا المستقيم منه الموافق للشريعة وأحكامها؛ وذلك لأننا متعبَّدون بطاعة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فما وافقهما اتخذنا هذا عونًا لنا على الوفاء بحقوق الله سبحانه علينا، كما نأخذ باجتهادات العلماء في قضايا الفقه وتفسير القرآن وبيان السنة.
تاريخ التصوف يبدو متعدد الثراء في إسهاماته الاجتماعية ومواجهة الأخطار الخارجية على العالم الإسلامي.. كيف انحسرت هذه الإسهامات إلى طُرق وتراتيل روحية؟
الحكم على جزء من منظومة دون النظر في حال بقية أجزائها لا يكون دقيقًا عادة، وفي حال التصوف يحكم عليه بعض الناس بأنه سبب تخلف الأمة وسقوط دولها الأخيرة، وتبدل حالها من العزة والسيادة والقوة إلى الضعف والوهن والتمزق! وكأن أوضاعنا السياسية والاقتصادية والعلمية كانت في قمة رقيها حتى جاء التصوف وأنزلها عن سلطانها.
والحقيقة هي أن الأمة عانت بعد القرن الرابع من ضعف متدرج وعام، شمل التصوف وغيره؛ فلم يعد السياسي ولا العالم ولا الداعية ولا الصوفي يقومون بواجبهم، ولم يعد الفقه ولا العقيدة ولا العلوم العقلية ولا الطبيعية كما كانت في عهود التفوق والسيادة.
ولعل وجود كيان اجتماعي للتصوف يتمثل في الطرق الصوفية جعل مظاهر ضعفه أكثر، لكن هذا الكلام لا ينفي أن بعض الأوساط الصوفية الحديثة قد خرّجت أعظم مقاومي الاستعمار والواقفين في وجه الغزو الثقافي والعسكري.
ما السبيل لاستعادة مضمون التصوف، أو ما سماه الشيخ الغزالي (الجانب العاطفي من الإسلام)؟
النهوض الإسلامي عمومًا مرهون بوجود مخطط صحيح له تقف وراءه عزائم قوية وعقول ثاقبة تفعّله في واقع المجتمعات الإسلامية، ولا نهضة للعالم الإسلامي دون مراعاة النهوض بالجانب الروحي، الذي اعتنى به التصوف أكثر من أي علم إسلامي آخر؛ وهذا قريب منا ومتاح أمامنا في كتاب الله تعالى وسيرة رسول الله ﷺ وسنته، ثم فيما ترك صالحو هذه الأمة بدءًا بصحابة النبي الأكرم وانتهاء بمن نظن به الصلاح من أهل عصرنا.
وقد جمعت لنا المصادر الصوفية تراثًا ثريًّا في هذا الجانب؛ نظريًّا بما درسوه من خطوات ومراحل الطريق إلى الله تعالى، وعمليًّا بما درسوه من أخلاق السالكين إلى الله تعالى.
ونحن في هذا الصدد نحتاج عند التعامل مع التراث الصوفي الضخم أن نقرأ التصوف ونقد القدماء له معًا؛ مثل ابن الجوزي وابن القيم؛ حتى نتجاوز بعض الأعطاب التي وقع فيها، ولم تحل أبدًا دون انتفاعهم بالخير الكثير الذي حوته كتب مثل: اللمع لأبي نصر السراج، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة القشيرية للقشيري، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، وكتب الحارث المحاسبي، وغيرهم.
ونشير كذلك إلى أن بعض المعاصرين كانوا منصفين في نظرهم إلى التصوف، وكثير منهم غلوا في جانب الرفض المطلق أو القبول المطلق للتصوف. وعلى رأس القلة المنصفة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ فقد رأى أن ما صدر عن علماء الصوفية، وقامت الحجة على صحته، فهو من الخير الكثير الذي ينبغي الانتفاع به في تقديم رؤى صحيحة عن الإسلام وشريعته، وقام هو بذلك فعلاً في عدة كتب له؛ على رأسها: (الجانب العاطفي من الإسلام)، و(ركائز الإيمان بين القلب والعقل)، وقام بنفسه بسياحة إيمانية راقية مع أعمال القلوب في كتابه (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء).
هل تتفقون مع من يرون بأن الجانب الروحي في الإسلام هو أحد الأدوات المهمة التي يمكن بها مخاطبة غير المسلمين، لاسيما الغرب الذي شقي بماديته؟
الإسلام كلٌّ متكامل، لكن يمكن أن تختلف المداخل إليه حسب الخطاب ومن نتوجه إليه به؛ وأحسب أن الجانب الروحي يصلح مدخلاً عظيمًا لإنسان عصرنا؛ لِمَا جفَّ من حياته الروحية.
لذا تجد تأثير الدعاة الصوفية واضحًا في بعض البلدان الغربية. إلا أن ما يميز الحياة الروحية في الإسلام عما يقدمه الهندوس والبوذيون للغرب، من اليوجا والرياضات الروحية التي تمارَس في أنحاء كثيرة من العالم الغرب؛ هو أن ما يقدمه الإسلام بهذا الخصوص يقوم على قاعدة صلبة من الاعتقاد الواضح المقرون بأدلته، في حين أن البدائل الروحية التي يقدمها الشرق الأقصى لإنسان عصرنا معلقة في الهواء، ولا تقوم على أصل.
كيف نتجنب الانحرافات التي تحدث للبعض أثناء تعرفه على الإسلام من خلال تراثه الروحي، خاصة أن هذا الجانب من التراث ممتلئ بالروافد التي تحتاج لتنقية؟
حين نقدم الإسلام ينبغي أن نحرص على إظهاره لُحمة واحدة؛ يتفاعل فيها الروحي مع العقلي، والقلبي مع الفقهي، والعقدي مع السلوكي. ونشير في سبيل هذا إلى ما ينبغي تجنبه من سلوكيات وأفكار متعارضة مع الإسلام وروحه التوحيدية النقية، ولا نحول هذا إلى مباريات للجدل والنقاش الطويل مما يؤدي إلى إخفاء وستر الوجه الحقيقي البسيط للإسلام.
وأرى أننا لسنا في حاجة للدخول في مباريات ومعارك جدلية مع من يحملون أفكارًا صوفية أو عقدية غير متوافقة مع الشريعة، إلا عند الضرورة وبقدر الحاجة؛ ونكتفي بالبيان الرائق للإسلام، ونعتمد مصادر علماء الصوفية المستقيمين ضمن مصادرنا في بيان الإسلام وطبيعته ومبادئه الظاهرة والباطنة، ونوصل هذا بكل سبيل إلى عقول الناس حيث كانوا.
كيف ترون إسهامات المؤتمر الذي عقد مؤخرًا تحت عنوان (تراثنا الروحي والحاجات المعاصرة للأمة بين المثالية والواقعية)؟
المؤتمر خطوة في طريق طويل لتصالح الدعاة والعلماء في عصرنا مع جانب مهم من تراثنا، وأرجو أن يظهر أثر هذه الخطوة في أفكار ومؤلفات المشاركين في المؤتمر في مستقبل أيامنا.
ما أهمية الجانب الروحي في التجديد الحضاري المطلوب، وتحقيق النهضة المرجوة؟
التجدد الحضاري في مفهومنا الإسلامي ذو أجنحة وأبعاد، والبعد الحامل للأبعاد الأخرى هو الاعتقاد الصحيح وأعمال القلوب المستقيمة؛ فإذا استقام هذان وصلحا صحَّت منظومة التجديد كلها بأبعادها العلمية والاجتماعية والحضارية كلها.