صدر حديثا كتاب “العمل الخيري: نظرات نقدية وتطلعات مستقبلية” للكاتب عبد الله بن حسين النعمة، وهو كتاب قيم في بابه، فقد استطاع المؤلف أن يكتب وصفا للمؤسسة الخيرية التي يحلم بتحقيقها واقعيا، والتي سعى –حسب ما كتب- إلى بنائها مع آخرين كانوا يشاركونه الرؤية والأحداث، كما يأخذ الكتاب قيمته أيضا من مكانة مؤلفه في العمل الخيري وتجربته الطويلة في إدارته والإشراف عليه.

وقد جاء الكتاب في ستة فصول تناولت مختلف القضايا والإشكالات المتعلقة بالعمل الخيري، وقد نفى الفصل الأول (العمل الخيري: عنوان لحركة المجتمع) أن يكون العمل الخيري خاصا بالمجتمعات المسلمة، مبينا خطل هذا التصور، لأن العمل الخيري حسب الكاتب قضية إنسانية لا علاقة لها بالدين أو المعتقد، وختم هذا الفصل بأن الإسلام جعل العمل الخيري مقصدا من مقاصده الكبرى، لأنه يساعد في إصلاح المجتمع الذي يؤدي إلى القيام بمهمة الخلافة في الأرض المنوطة بالبشرية.

كان عنوان الفصل الثاني من الكتاب: (أوعية العمل الخيري) وقدم فيه الكاتب نبذة عن المنظمات العاملة في الميدان، ذاكرا نتفا من تاريخ نشأتها ومراحل تطورها، ومناقشا بدايات ظهور مصطلح “المنظمات غير الحكومية”، الذي يرى أنه بدأ أول مرة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، الذي عقد تحت شعار “اتحاد المؤسسات الدولية”، وعرفت الأمم المتحدة المنظمات غير الحكومية ويمكن رصد السمات العامة لهذا التعريف بأن تلك المنظمات تشترك في:

– وجود هيكل رسمي

– ليس لها علاقة بهيكلة الحكومة

– غير هادفة للربح

– ذاتية الحكم

– تشتمل على درجة من التطوعية

– غير دينية أو عنصرية

– بعيدة عن التحالفات السياسية

ويرى الكاتب أن المنظمات غير الحكومية مرت بأجيال أربعة، بدأت بـ”جيل المنظمات الرعوية التطوعية” وقد ارتبط هذا الجيل بميزة التطوعية، وتماهى في فترات طويلة مع أدبيات العمل الإحساني والخيري، وبعبارة أخرى ارتبط بالمجتمعات التقليدية، أما الجيل الثاني فهو ما أطلق عليه اسم: “جيل المنظمات الهادفة إلى تحقيق توجهات التنمية المستدامة”، والتي تعني تمكين الأجيال الحالية من إشباع حاجاتها وتحقيق رفاهيتها (بما في ذلك الفقراء منهم) دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على إشباع حاجاتها، آخذة بعين الاعتبار تحديات الحفاظ على الأنظمة البيئية ومحدودية الموارد الطبيعية القابلة للتجدد.

أما الجيل الثالث فهو: “جيل المنظمات الهادفة إلى تحقيق وتعزيز حقوق الإنسان ودفع عملية التغيير الهيكلي”، وهي تلك المنظمات التطوعية –غير الحكومية- التي تتبنى المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، وتعمل في مجال الدعوة إلى حماية حقوق الإنسان واحترامها، ونشر الوعي بهذه الحقوق ورصد الانتهاكات لها، ولا تقوم هذه المنظمات بعمل رعوي أو خيري، والجيل الرابع هو: “جيل المنظمات التي تسعى إلى تعزيز الحراك الاجتماعي، وتعزيز قيمة رأس المال الاجتماعي عبر الحدود الجغرافية”.

وفي الفصل الثالث الذي جاء بعنوان: “محطات العمل الخيري” قام الكاتب بسرد تاريخ العمل الخيري وظروف نشأته، مسلطا الضوء على أربع مناطق هي: بريطانيا والولايات المتحدة، والمنطقة العربية وتركيا، وقد نبه إلى انتقال العمل الخيري في الغرب من عمل ديني تشرف عليه الكنيسة إلى عمل اجتماعي يؤطره القانون المدني، حتى منتصف القرن الثامن عشر كانت الأعمال الخيرية في أوروبا عامة وفي بريطانيا خاصة تشرف عليها أبرشيات الكنائس، وكانت مسؤولة عن الصحة والتعليم والسكن وحتى السجون، لكنه مع عصر النهضة تحول العمل الخيري إلى ممارسة ثقافية واسعة الانتشار وخاصة بين الأغنياء.

الموضوع الحقيقي للكتاب بدأ من الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: “رؤيتنا لبناء مؤسسة العمل الخيري ذات البعد الدولي”، وقد تعرض لأسس بناء مؤسسة العمل الخيري النابعة من “قيمنا ونظرتنا الإسلامية الواقفة في المستوى الدولي، ليس لمنافسة الآخرين، بل لدعمهم والعمل معهم، ولكن من منظور الفلسفة الإسلامية”.

وقد قسم هذا الفصل إلى ثلاث دوائر هي: دائرة الفكر والفلسفة للمؤسسة الخيرية، ثم دائرة مستلزمات البناء المؤسسي لذلك الكيان، وأخيرا الدائرة التي تتعلق ببيئة عمل المؤسسة والضوابط الحاكمة لها، وكانت منهجية الكتاب في ذكر هذه المفاهيم هو التأصيل الشرعي لما هو إسلامي فيها، وسرد تاريخي لبداية المفاهيم الأخرى، وذلك -حسب الكاتب- “لربط الماضي بالواقع الذي نعيشه ومن ثم التعبير عن رؤية الكاتب في تلك المفاهيم المتعلقة بعمل المؤسسات الخيرية.

وتناول الفصل الخامس البناء المؤسسي في العمل الخيري، وقد اعتمد الكاتب فيه النموذج السداسي للأعمدة الأساسية في إدارة المؤسسة، وتحدث عن إدارة العمليات والمشاريع والمعرفة والتغيير والموارد، وكذا إدارة ثقافة المنظمة، أما الفصل الأخير “التحديات التي تواجه العمل الخيري”، فقد قام فيه الكاتب بتقديم رؤية استشرافية للتحديات التي تواجه مؤسسات العمل الخيري والتي منها تحديات التمويل والاستدامة، وكذا التحديات التي تطرحها الأزمات التي تمر بها المنطقة، وما يستتبع ذلك من انعكاسات على العمل الخيري، ويستدعي من العاملين الحرص على العمل باحترافية، ووضع خطط واستيراتيجيات قابلة للتنفيذ بانسيابية في مختلف الظروف.

وفي الختام فإن كتاب “العمل الخيري: نظرات نقدية وتطلعات مستقبلية” يعتبر كتابا مهما في مجاله، ولعل المنظمات الخيرية العاملة في العالم الإسلامي تقوم بقراءته وتحليله، ففيه أفرغ الكاتب تجربته في العمل الخيري مواكبا وملاحظا ومخططا.