ما أكثر المخاطر التي يتعرض لها الإنسان في الحياة منذ ولادته وحتى الوفاة، ولئن كانت المخاطر قديمة النشأة قدم الإنسان ذاته، فإنها زادت في الأزمة المتأخرة أكثر من ذي قبل.

ولقد كانت سياسة الإنسان قديما في التعامل مع المخاطر تقوم على تجنبها بقدر الإمكان، فمتى أمكنه تجنب الأعمال التي تؤدي إلى المخاطر كان يتجنبها، وإن فاتته بذلك بعض المكاسب المحتملة.

أما الأعمال التي لم يكن يمكنه تجنبها، فكان يقدم عليها متحملا وحده ما ينجم عنها من خسائر، مهما كلفته من خسائر مادية وأدبية؛ حتى وإن أودت بحياته!

ثم مع تقدم العلوم، واكتساب الخبرة، استبدل الإنسان تقليل الأخطار بتجنبها جميعا، فأصبح يقلل منها، ويتحاشى أشدها خطورة، ويتعامل مع الأعمال ذات الخطر المحتمل.

ثم تفتق ذهن الإنسان بعدما خطا خطوات طويلة المدى نحو التمدين والعمران، تفتق ذهنه عن المشاركة في تحمل المحاطر، وتفتيتها ، وتوزيعها على عدد كبير من الناس، بدلا من أن ينوء بها شخص واحد، فأصبح يكون الروابط الاجتماعية، والاتفاقات التجارية، والتحالفات الجماعية لمواجهة المخاطر، وعرف العرب فكرة التحالفات، فأصبح يُعرف فلان حليف فلان، وفلان في جوار قوم كذا…وهكذا.

نشأة شركات التأمين

مع نشأة المدرسة الرأسمالية، واعتمادها على تسليع كل ما يمكن تسليعه- أي جعله سلعة يباع ويشترى- نظرت الرأسمالية إلى الأخطار، ورأت أنه يمكن تحويلها إلى سلعة تجلب الأرباح الهائلة، فابتكرت فكرة تحويل المخاطر.

فبدلا من أن يحار الإنسان في كيفية التعامل مع المخاطر، إما بتجنبها، وإما بتحملها وإما بتشاركها، بدلا من ذلك يمكنه أن  يقوم بتحويلها بعيدا عنه ليتحملها طرف آخر، هي شركات التأمين نظير مبلغ من المال.

في بداية القرن العشرين، كانت جميع شركات التأمين أجنبية، فأرادت أن تروج لبضاعتها في مصر وفي غيرها من بلاد المسلمين، لكنها كانت تعلم أنها تحمل منتجا غريبا عن الثقافة الإسلامية، فأرادت أن تبدد مخاوف المسلمين في عدم شرعية هذا المنتج الوافد.

فتقدمت إلى الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية باستفتاء ، صاغوه بمهارة فائقة، لتظهر الفتوى وكأنها تبيح التأمين.

تلقفت شركات التأمين هذه الفتوى، وحافظوا عليها، فهي سبيلهم في إسكات أي محاولة لتحريم عملهم،  وطبعوها بحروف دقيقة، وأبرزوا أختام دار الإفتاء حولها، ووضعوها في إطار ثمين، وغلفوها بالزجاج والبلاستيك الشفاف، وعلقوها في مكاتب التأمين الرئيسة، ووزعوها مع بائعي خدمة التأمين .

وظل الحال هكذا حتى عام 1940م، ثم ضعف الحرص على إبراز الفتوى حينما وجدت شركات التأمين  ضَعف الوازع الديني لدى المسلمين.

المجامع الفقهية تبحث موضوع التأمين

مع ظهور الصحوة الإسلامية والفقهية ، بدأت الهيئات الفقهية المتخصصة من المجامع الفقهية وغيرها بحث موضوع التأمين من كل جوانبه، الاقتصادية ، والاجتماعية والشرعية لإصدار قرار جماعي حول هذه النازلة.

ولا شك أنه موضوع جدير بالدراسة والبحث الجماعي العميق، وبخاصة أنه قد وصلت ميزانية بعض شركات التأمين الغربية 500 مليار مارك ألماني مع متوسط زيادة سنوية تصل لمائة مليار مارك ألماني وهو ما يزيد عن ميزانية عشرات الدول من دول العالم الثالث.

بل يذكر بعض علماء الاقتصاد أن التأمين أهم من الصيرفة ، مثل محمد نجاة الله صديقي؛ وذلك أن التأمين لم يعد مجرد تحويل للمخاطر، فقد تجاوز ذلك إلى  الزيادة في حجم الاستثمار، وتنوع الأعمال التجارية،  وإيجاد فرص عمل لشرائح كبيرة من المجتمع.

والتأمين أنواع ثلاثة:

التأمين الاجتماعي

التأمين التجاري

التأمين الإسلامي

وفي هذه المقالات نتحدث عن حكم كل نوع منها :

أولا: التأمين الاجتماعي

هو نظام إجباري غالبا، تشرف عليه الدولة، وغالبا ما تقوم هي به، لا يقصد من ورائه تحقيق الأرباح، يموله المؤمن عليه وصاحب العمل والحكومة أو بعضهم، بمساهمات دورية موحدة ، أو مختلفة في المقدار أو النسبة ؛ ليحصل المستحق من المؤمن عليه أو ممن يعولهم على مبلغ إجمالي، ومعاش وبدل دوريين، يتناسب مع دخله ومدة اشتراكه. أو من غير تناسب عند انقطاعه، أو قيام ما يسلزم نفقات مالية، وعلى غيرها من الخدمات كالعلاج والتدريب والتأهيل عند الحاجة إلى ذلك.[1]

وهو بعبارة أخرى : نظام المعاشات الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى.

ويَشمل التأمين ضد البطالة، والتأمين الصحِّي، والتأمين ضد العجز، وتأمين المعاشات، وهذا التأمين عادة تقوم به الدولة أو المؤسَّسات الاقتصادية والصحية الحكومية؛ لتأمين الموظَّفين والعمال والمُستخدمين.

وخلاصته أن يستقطع مبلغًا معينًا من مرتَّب الموظَّف أو العامل أثناء فترة عمله، وتضيف إليه الدولة مبلغًا آخَرَ، وعند نهاية الخدمة أو الإصابة التي تُعيق الموظف أو العامل عن الاستمرار في العمل يُعطى معاشا شهريًّا ثابتًا، أو يُصرف للمصاب تعويض مناسب، فضلاً عن نفقات العلاج.

حكمه الشرعي:

يكاد يتفق الفقهاء المعاصرون على جواز التأمين الاجتماعي ؛ لخلوِّه مِن شبهتي الغرر والرِّبا، وعملاً بقوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].

وقد اتفقت على جوازه جميع المجامع الفقهية بدءا من مجمع البحوث الإسلامية عام 1965، إلى غيره من المجامع الفقهية ، مثل مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي، ومجمع رابطة العالم الإسلامي عام 1398هـ/1978م.

تكييفه الفقهي

وأقرب التكييفات الفقهية للتأمين الاجتماعي أنه من عقود التبرعات، وهي تلك العقود التي تقوم على أساس المنحة والتمليك بلا عوض من أحد الطرفين، مثل الهدية  والصدقة والهبة من غير عوض، إلا أن هذا التبرع ليس اختياريا، بل هو تبرع إجباري مفروض على الممولين له غالبا، وهو ليس من قبيل الصدقة التي يبتغى بها الأجر الأخروي، ولا من قبيل الهبة التي يبتغى بها التحابب، بل هو تبرع يقصد به حماية ومساعدة المقصودين به في بعض الحالات الموجبة لذلك، فهو تبرع لمصلحة دنيوية، وهذا التبرع لا تنتقل ملكيته مباشرة إلى المستفيدين، بل يتجمع لدى جهة تطبيقه، ويصير موقوفا لمصلحتهم، وهذا ما يجعله من عقود الشركات أيضا، وباجتماع التبرع والاشتراك يتحقق التكافل الاجتماعي.[2]


[1] التأمين الاجتماعي، د. عبد اللطيف محمود آل محمود. 59

[2] – التأمين الاجتماعي، د. عبد اللطيف محمود آل محمود. ص347