منشأ الحق أو سببه الأساسي أو غير المباشر: هو الشرع. فالشرع هو المصدر الأساسي للحقوق، والسبب الوحيد لها، غير أن الشرع قد ينشئ الحقوق مباشرة من غير توقف على أسباب أخرى، كالأمر بالعبادات المختلفة، والأمر بالإنفاق على القريب، والنهي عن الجرائم والمحرمات، وإباحةالطيبات من الرزق، فإن أدلة الشرع هنا تعتبر أسباباً مباشرة للحقوق.
وقد ينشئ الشارع الحقوق أو الأحكام مرتبة على أسباب أخرى يمارسها الناس، كعقد الزواج، فإنه ينشئ حق النفقة للزوجة والتوارث بين الزوجين وغير ذلك. وعقد البيع ينشئ ملك البائع للثمن والمشتري للمبيع. والغصب سبب للضمان عند هلاك المغصوب. وتعتبر العقود والغصب أسباباً مباشرة، وأدلة الشرع أسباباً غير مباشرة.
والمقصود من الأسباب أو المصادر الأسباب المباشرة، سواء أكانت أدلة الشرع أم الأسباب التي أقرتها وعينتها هذه الأدلة. ومصادر الحق بالنسبة للالتزامات خمسة: هي الشرع، والعقد، والإرادة المنفردة، والفعل النافع، والفعل الضار.
فالعقد كالبيع والهبة والإجارة. والإرادة المنفردة كالوعد بشيء والنذر. والشرع كالالتزام بالنفقة على الأقارب والزوجة، والتزام الولي والوصي، وإيجاب الضرائب. والفعل الضار بالغير كالتزام المتعدي بضمان الشيء الذي أتلفه أو غصبه. والفعل النافع أو الإثراء بلا سبب كأداء دين يظنه الشخص على نفسه، ثم يتبين أنه كان بريئاً منه، أو أداء دين الغير بأمره، أو شراء شيء ثم يتبين أنه ملك الغير، فيجوز لصاحب الحق الرجوع على الآخر بالدين، لعدم استحقاق الآخر له.
ويمكن إدخال جميع هذه المصادر في الواقعة الشرعية. والواقعة الشرعية إما أن تكون طبيعية كالجوار والقرابة والمرض ونحوها، أو اختيارية. والواقعة الاختيارية إما أن تكون أعمالاً مادية ممنوعة وهي الفعل الضار، أو أعمالاً مشروعة من جانب واحد وهي الفعل النافع، وإما أن تكون تصرفات شرعية.
والتصرفات الشرعية: إما وحيدة الطرف وهي الإرادة المنفردة، أو متعددة وهي العقد.
ويلاحظ أن هذه المصادر هي الأسباب المباشرة للالتزم، وأما المصدر غير المباشر لكل التصرفات الشرعية والأفعال المادية فهو الشرع.
كما ويلاحظ أن الإقرار لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو إخبار بالحق على الرأي الراجح عند الفقهاء. كما أن قضاء القاضي لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو مظهر للحق وكاشف له، إلا إذا قضى القاضي بشهادة زور، ولم يكتشف الزور فيها، فإن قضاءه يعد منشئاً للحق ظاهراً أي قضاء لا ديانة.
الأحكام المترتبة على نظرية الحق
أولا – استيفاء الحق:
لصاحب الحق أن يستوفي حقه بكل الوسائل المشروعة.
أـ استيفاء حق الله تعالى في العبادة يكون بأدائها على الوجه الذي رسمه الله تعالى للعبادة إما في الأحوال العادية (العزيمة)، أو في الأحوال الاستثنائية (الرخصة) مثل قصر الصلاة، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، والتيمم بالتراب بدل الماء أثناء المرض أو فقد الماء، والنيابة في الحج للعاجز عنه، وإباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان حال الإكراه عليه.
ب ـ واستيفاء حق الإنسان (العبد): يكون بأخذه من المكلف به باختياره ورضاه، فإن امتنع من تسليمه: فإن كان الموجود تحت يده عين الحق كالمغصوب والمسروق والوديعة، أو جنس الحق كأمثال العين المغصوبة عند هلاكها، ولكن ترتب على أخذه من قبل صاحب الحق نفسه فتنة أو ضرر في الحالتين أو كان الموجود تحت يده من خلاف جنس الحق مطلقاً، فليس لصاحب الحق باتفاق الفقهاء استيفاؤه بنفسه، وإنما بواسطة القضاء.
أما إذا كان الموجود تحت يد الآخذ مالاً من جنس الحق، ولم يترتب على الأخذ بطريق خاص فتنة أو ضرر، فالمشهور عند المالكية والحنابلة أن صاحب الحق يستوفيه بواسطة القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
ثانيا – حماية الحق:
قررت الشريعة حماية الحق لصاحبه من أي اعتداء بأنواع مختلفة من المؤيدات منها المسؤولية أمام الله، والمسؤولية المدنية، وتقرير حق التقاضي.
فالعبادات التي هي نوع من حقوق الله تعالى حماها الشرع بوازع الدين ودافع الإيمان القائمين على الرهبة من عذاب الله، والرغبة في ثوابه ونعيم الدنيا. ولذا كثيراً ما بدئت آيات القرآن في التكاليف الشرعية بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:282/ 2].
وهناك نوع آخر من الحماية للعبادة وهو الحسبة: وهي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وهو حق ثابت لكل فرد من أفراد الأمة، وللمحتسب وهو والي الحسبة، فله مطالبة تارك الصلاة والزكاة، أو المفطر في رمضان بأداء ما تركه. ولكل مسلم رفع دعوى الحسبة على المعاصي إلى المحتسب أو القاضي ليؤدب العاصي بما يردعه ويزجره عن ترك العبادات وغيرها.
ثالثا – استعمال الحق بوجه مشروع:
على الإنسان أن يستعمل حقه وفقاً لما أمر به الشرع وأذن به. فليس له ممارسة حقه على نحو يترتب علىه الإضرار بالغير، فرداً أو جماعةً، سواء أقصد الإضرار أم لا. وليس له إتلاف شيء من أمواله أو تبذيره لأن ذلك غير مشروع.
فحق الملكية يبيح للإنسان أن يبني في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، لكن ليس له أن يبني بناء يمنع عن جاره الضوء والهواء، ولا أن يفتح في بنائه نافذة تطل على نساء جاره، لإضراره بالجار.
واستعمال الإنسان حقه على وجه يضر به أو بغيره هو ما يعرف بالتعسف في استعمال الحق عند فقهاء القانون الوضعي.
رابعا – نقل الحق:
يجوز انتقال الحق بسبب ناقل له، سواء أكان الحق مالياً كحق الملكية في المبيع، فإنه ينتقل من البائع للمشتري بسبب عقد البيع، وحق الدين، فإنه ينتقل من ذمة الدائن إلى تركته بسبب الوفاة، أم كان الحق غير مالي كحق الولاية على الصغير، فإنه ينتقل من الأب إلى الجد بسبب وفاة الأب، وحق الحضانة، فإنه ينتقل من الأم إلى الجدة لأم إذا تزوجت الأم بغير محرم من الصغير.
خامسا – انقضاء الحق:
ينتهي الحق بسبب من الأسباب المقررة شرعاً لانتهائه، وهو يختلف بحسب نوع الحق، فحق الزواج ينتهى بالطلاق، وحق الابن في النفقة على أبيه ينتهي بقدرته على الكسب، وحق الملكية ينتهي بالبيع، وحق الانتفاع ينتهي بفسخ عقد الإجارة أو انتهاء المدة، أو بانفساخ العقد بالأعذار أو الظروف الطارئة كانهدام المنزل، وحق الدين ينتهي بالأداء أو بالمقاصة أو بالإبراء: وهو إسقاط صاحب الحق حقه ممن هو عليه. وتفاصيل ذلك تعرف في بحث نظرية العقد
- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة مصطفى الزحيلي رحمه الله.