تنطلق نظرية الترجيح للوصول إلى القول الراجح من الإيمان بأن الآراء الفقهية ليست سواء، بحيث نختار منها ما نشاء للفتوى والقضاء، وندع منها ما نشاء. بل منها ما هو جدير بالاختيار حسب ميزان التمحيص والترجيح، ومنها ما هو جدير بالطرح والإهمال حسب معايير معينة، فمن هذه الاجتهادات ما وافق الصواب، ومنها ما جانبه الصواب.
فالاتجاه الفقهي الذي يصل بالآراء الفقهية إلى قدسية النص المعصوم، يُتعامل معها كما يتعامل مع النص نفسه، اتجاه لا تؤمن به نظرية القول الراجح، ولا تتبناها.
فهذا الاتجاه تابع لنظرية أخرى، نظرية لا تنتظر تحقيقا ولا تمحيصا ولا ترجيحًا، بل حسبها أن تظفر بقول فقهي منسوب إلى أحد المجتهدين، فتجعله في مصاف النص المعصوم.
يظن بعض المسلمين حينما يسمعون أو يقرؤون كلمة ” الراجح” أن الخلاف في المسألة سوف ينتهي، ولِمَ لا ، وقد استطعنا أن نعرف الراجح من المرجوح! وهل يُقبل أحد على القول المرجوح والضعيف بعد ظهور الراجح والصحيح !
لكن الذي لا يعرفه هؤلاء أن الراجح ما هو إلا قول جديد في المسألة، وحقه أن يزيد عدد الأقوال في المسألة، إذا كان قولا جديدا، أو يزيد عدد المتبنين لهذا القول إذا كان القول قد قيل به سلفًا.
سألتني امرأة مرة عن حكم إزالة شعر الحاجبين، وأنها قرأت لعلماء حرموا إزالته، وقرأت لآخرين أجازوه للزوج، ولآخرين أجازوه للجميع، ولآخرين رجحوا لها القول الأول، ولآخرين رجحوا لها القول الثاني، ولآخرين رجحوا لها القول الثالث!!
قلت لها : وما المطلوب مني؟
قالت : أن تدلني على القول الراجح فقد تشتت الأمر علي !
قلت لها : وما الجديد الذي تظنين أني سآتي به ؟ فمهمها كان العلم الذي عندي، فإنني سوف أختار واحدا من هذه الآراء فأزيدك تشتيتا على شتاتك! وسيظل من سألتِهم أوَلًا على ما أفتوكِ به، وسيظلون يفتون غيرك بما أفتوكِ!
وسيظل لكل رأي أنصار ، يدافعون عنه، ويصفونه بأنه الراجح، وبأن قول غيرهم مرجوح أو ضعيف.
كيف يُصنع القول الراجح؟
إن من يصف اختياره الفقهي بأنه الراجح، لم يعثر على مسجل صوتي للنبي ﷺ في تأييد اختياره، وتسفيه الآراء الأخرى، ولا يتنزل عليه الوحي دون الآخرين.
ولكنه يطلع على الأقوال وأدلتها، ويناقشها، أو يطلع على مناقشاتها التي تكونت خلال ألف وأربعمائة سنة، ثم يعرض هذه المناقشات على اختياراته الأصولية، فيختار منها ما يتسق وهذه الاختيارات، ويصفه بأنه الراجح، ويصف الاختيارات الأخرى بالضعف والمرجوحية، وربما الخطأ والبطلان !
وفي هذه الأثناء يوجد على الشاطئ الآخر، من يعرض هذه المناقشات على اختياراته الأصولية، فيختار منها ما يتسق وهذه الاختيارات، ويصفه بأنه الراجح، ويصف الاختيارات الأخرى بالضعف والمرجوحية، وربما الخطأ والبطلان !
فيكون الراجح عند الأول مرجوحًا عند الثاني، والصحيح عند الثاني ضعيفا عند الأول ….وهكذا.
الغناء والموسيقى
فمسألة كمسألة الغناء والموسيقى، اختلف فيها العلماء الأوائل، وظلت المسألة طوال أربعة عشر قرنا لاهثة بين العلماء، واحد يبيح ويصف قوله أنه الراجح، وآخر يحرم ويصف قوله أنه الراجح، فالشيخ القرضاوي مثلا يؤلف في ذلك كتابا يثبت فيه أن اختياره بالجواز هو الراجح، والشيخ الألباني يؤلف كتابا يثبت فيه أن اختياره بالتحريم هو الراجح.
إطلاق اللحية
من المسائل المعاصرة التي اشتد فيها الخلاف واحتد: إطلاق اللحية، هل هو على الوجوب أم على الاستحباب والسنية؟
من يذهب إلى القول باستحبابها لم يغِب عنه حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين، وحديث أبي هريرة عند مسلم في أمر النبي ﷺ بإعفاء اللحية وإرخائها وتوفيرها وإيفائها وإرجائها،لكنهم يذهبون إلى أن هذا الأمر بالوجوب محمول على الاستحباب، وهذا منحى أصولي اختاره الشيخ القرضاوي أن معظم أوامر السنة ، الأصل فيها أنها للاستحباب مالم يصرفها صارف إلى الوجوب، وأما من اختار وجوب إعفائها فذلك لاختياره المنحى الأصولي الأشهر القاضي بأن الأوامر تحمل على الوجوب قرآنية كانت أو حديثية مالم يصرفها صارف إلى الاستحباب.
المحققون
من العلماء من يُعرفون بالتحقيق، ومنهم من يعرفون بالتقليد، فأما المقلدون فإنهم ليس لهم اختيارات فقهية، بل اختياراتهم كانت بين الأئمة وليس بين الأقوال، فاختار كل واحد منهم إماما من الأئمة ولزمه وقلده.
أمّا المحققون، فهم من رفضوا تقليد أحد من العلماء، لا الأربعة ولا غيرهم، وهؤلاء الرافضون منهم من غالى في رفضه، فوصل إلى تحريم التقليد كابن حزم والشوكاني، ومنهم من توسط في الرفض كابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وأغلب من يُنقل عنهم كلمة الراجح، هم هؤلاء المحققون، فإذا تُليت كلمة ” الراجح” فإنها غالبا ستكون اختيار واحد من هؤلاء المحققين، وأبرزهم ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، وابن عثيمين والألباني ، والقرضاوي في عصرنا، وقرارات المجامع الفقهية.[1]
لكن المتصدر للفتوى لم يتحول إلى متحدث رسمي عن هؤلاء ملغيا للتحدث عن نفسه، فإذا وصف المتصدر للفتوى اختياره بأنه الراجح، رشح ذلك عن اختيار قول لهؤلاء المحققين المذكورين، كما لا يوجد ما يمنع أن يكون هذا الاختيار من عمله هو، فيكون الرجحان وصفه لعمله هو، وإن كان هذا قليلا.
وبعدُ، فليس من شأن هذه المقالة أن تدل القارئ عما يفعله إزاء الآراء المتقابلة في المسألة الواحدة، وإزاء وصف كل قول مرة بالراجح ومرة بالمرجوح بحسب المنحى الأصولي للواصف، كما أنها لا تقصد التهوين من عملية الترجيح والتمحيص والتقليل من شأنها، بل كاتب هذه السطور يرى الترجيح واجبا في حق من يملك أدواته.
ولكن حسب هذه المقالة أن تبين أن نظرية القول الراجح ليست إلا قولا جديدا في المسألة، لا يمكنه أن ينسف الأقوال الأخرى.
[1] – ليس المراد هؤلاء الأعلام بأشخاصهم فحسب، ولكن المراد : مدارسهم.