في ليل حراء، كان وحده جالسا يبحث عن مفتاح يفك مغاليق الكون، لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، لكن اقرأ جاءت، وغيرت مجريات التاريخ، ليس في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم وحسب، وإنما في كافة الأرض، ولقرون تاليات.
وسر القراءة فتحها باب الجمع لا التجزئة، فالجذر قرأ يدور معناه على الجمع، ومن هنا فإن كلمة اقرأ تفتح باب النظر للكليات لا الجزئيات، وتنقل العربي من ثقافة السماع والشفاهة لثقافة الكتابة، وتفتح للإنسان باب الكون، باسم ربه الذي خلقه.
والفارق بين ثقافة السماع وثقافة الكتابة، أن الأخيرة تؤدي لتراكم المعرفة، وذيوعها، وحرية امتلاكها، ونقلها، وحرية تفسيرها وفهمها، فالنص مشترك، والمعاني متفاوتة مختلفة، بينما لا تتيح ثقافة السماع إلا المعرفة والحفظ بغير تراكم فعال.
وبتقديرنا فإن كلمة اقرأ هي التي فتحت الباب للعربي للمزاوجة ابتداء بين السماع والشفاهة، فأفاد من قدراته في الحفظ والتفسير بناء على السماع في التعامل مع كتاب الله عز وجل، وأفاد من فكرة القراءة في أن يراكم هذه المعرفة، ويزيدها ويحفظها للأجيال التالية.
وليس هذا متوقفا عند القرآن الكريم، بل على العكس تجد أن الأصل معرفة الكون كتاب الله المنظور، وقراءته، فأنت تجد الأمر بالقراءة مقرونا بالربوبية، وتخصيص الربوبية بالخلق، ثم الحديث عن غوامض -في ذلك الزمان البعيد- من أسرار خلق الإنسان، ما كان يدري بها أصلا. ثم تجدد الأمر، لتجد المنة الإلهية فالإله الأكرم، كما تقول الآية الثالثة: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) علم الإنسان بالقلم، فالإله امتن ومنح الإنسان سر الكتابة، وتراكم المعرفة، وأسرارها البالغة، وفتح بهذا للإنسان علم ما لم يعلم.
والله تعالى يرشدنا هنا إلى أداة العلم وهي القلم، وعليه فقد رد الله تعالى الأمر للأداة والأسباب والمسببات الظاهرة، ليلغي احتكار المعرفة الذي كان سائدا، وليلغي كذلك كل نمط من أنماط المعرفة بالكون التي لا تأتي بوسيط مشترك للجميع، وهو القلم هنا.
فكما كشفت الآيات عن سر من أسرار الخلق، كشفت عن أداة العلم، وفتحت بابه أمام الناس جميعا على حد السواء، فمعيار المعرفة هو أن يكون العارف إنسانا، وأن يمتلك الأداة، لا أكثر، من دون اشتراط الإيمان، فالقراءة ربطت بالربوبية، وهي مشتركة بين جميع الخلائق، والفيصل قيام المخلوق بحق الألوهية.
إن الله يرشد الإنسان بهذا إلى أهمية الكرم بالعلم، فمصدر العلم هو الكريم، والإنسان لم يكن يعلم، وعليه فليس للإنسان منة في نفسه يمتن بها على غيره، ولهذا تكاملت الآيات لاحقا مذكرة بأن واقع الإنسان أنه يطغى أي يتجاوز الحد في أمره كله، والطغيان يتنافى مع الميزان، والميزان يقتضي الاتزان بين الأشياء كافة، وإدراكها على وجهها، وهذا الإدراك سيقود للقيام بحق الألوهية، وأي خلل في القيام بحق الألوهية سيقود للاستغناء عن الله تعالى وهنا سر الطغيان.
فالإنسان بامتلاكه العلم قد يصيبه من الغرور نصيبه، ويفقد قدرته على إدراك حقائق فطرية أساسية منها الألوهية والبعث، وتبدأ سلوكياته في الانحدار تجاه خصلتين رئيسيتين هما الخطأ والكذب.
وفي المختتم أمر صريح بعدم إطاعة من يتجاوز، ويستغني، ويبتعد عن الميزان، وأن يقترب العبد من ربه تبارك وتعالى، ومن هنا ندرك عمق الارتباط بين العلم والخلق، والقرب من الله تعالى، فإن كان العلم عاريا من حق الألوهية فقد قيمته الفعلية في تحقيق عبودية الله تعالى.