بادِئ ذي بَدْءٍ، لتقييم الملك العادِل نور الدين محمود بن زنكي في إطار مناقشة جهاده للفِرِنْج، فسوف يكون لِزامًا علينا تقديم مُلخَّص مُقتضَب عن المَعالِم البارِزة في تلك الفترة، وتسليط الضَّوء على أهمِّ الإنْجازات في مَسيرته.

بعَقِب مقتل عِماد الدِّين زَنْكي، سرعان ما استولى ابنه الثاني نورُ الدِّين على مدينتَي الرُّها وحَلَب. وهُنالك ابتُلِيَ العالَمُ الإسلاميُّ بطامَّة الحملة الصَّليبيَّة الثانية، التي كان قد أجَّج نارَها سقوطُ إمارة الرُّها الصَّليبيَّة. ثُمَّ حقَّق نورُ الدِّين نصرًا مُؤزَّرًا على الفِرِنْج بوقعة إِنِّب – وهو حِصْنٌ قريبٌ من بلدة أعْزاز من نواحي حَلَب – في صَفَر سنة 544هـ = يونيو 1149م. وبحلول سنة 549هـ = 1154م كان قد وحَّد سُورِيَةَ. ومع تقلُّد الحاكِم الصَّليبيّ أملريك (Amalric) الأمورَ في سنة 558هـ = 1163م بدأت مرحلةٌ جديدةٌ في مَسيرة نور الدِّين. لقد ولَّى أملريك وَجْهَه شَطْرَ الدَّوْلة الفاطِميَّة المريضة بمِصْرَ، والهازِلة قُواها باغْتيال الوزير الصَّالِح طَلائِع بن رُزِّيك في سنة 556هـ = 1161م، ومن ثَمَّ اضْطُرَّ نور الدِّين إلى تبنِّي خطوة حربيّة جريئة تُجاه الفِرِنْج؛ إذ بدأ هو الآخَر بالتَّدخُّل في شؤون مِصْر الدّاخليَّة.

ذاق نورُ الدِّين طعمَ الهزيمة على أيدي الفِرِنْج في سهل البُقَيْعَة، قُرْب حِصْن الأكْراد سنة 558هـ = 1163م. ثُمَّ في السنة القابلة جاء الوزير الفاطِميُّ شاوَرٌ السَّعْديّ إلى نور الدِّين يطلبُ مُساعَدةً عسكريةً ضدّ ضِرْغامٍ، مُنافِسه السِّياسيّ في القاهِرَة، الذي أطاح به من السُّلْطة. ففي سنة 559هـ = 1164م أرسل نور الدِّين جيشًا يَقدُمُه القائدُ الكُرْديُّ شِيرَكُوه (عمّ صلاح الدِّين) بُغْيَة إعادة شاوَرٍ إلى السُّلْطة في القاهِرَة. من جانِبه دعا ضِرْغامٌ الفِرِنْجَ بقيادة أملريك لنجدته، بَيْدَ أنَّ شاوَرًا لمَّا استعاد السيطرةَ على القاهِرَة، ضرب بوعوده التي قطعها لنور الدِّين عُرْضَ الحائط.

لم تُحقِّق حملةُ نورِ الدِّين الثانيةُ على مِصْرَ في سنة 562هـ = 1168م شيئًا مذكورًا. مع ذلك، شنَّ الفِرِنْج هُجومًا على القاهِرَة في سنة 564هـ = 1168م. فاضْطُرَّ شاوَرٌ إلى طلب النَّجْدة من نور الدِّين مرَّةً أُخرَى. فعهد نورُ الدِّين إلى شِيرَكُوه بقيادة الحملة الثالثة إلى مِصْرَ. ولمَّا تُوفِّي شِيرَكُوه في سنة 564هـ = 1169م تولَّى صلاح الدِّين – ابن أخيه – قيادة القُوّات الشّاميّة بمِصْرَ، فاتَّجه إلى السَّيْطرة على الدَّوْلة الفاطِميَّة عبر تعيينه كوزيرٍ من قِبَل الخليفة الفاطِميّ، العاضِد. وعندما تُوفِّي الخليفةُ في سنة 567هـ = 1171م اتَّخذ صلاحُ الدِّين أهمَّ خطوة تتمثَّل في إلغاء الخلافة الفاطِميَّة، وفي إعادة مِصْر إلى أكْناف الخلافة العبَّاسيَّة السُّنيَّة في بَغْدادَ تارةً أُخرَى. قام صلاح الدِّين بجميع هذه التَّحرُّكات باسْمِ سيِّده نور الدِّين في الشَّام حتَّى سنة 567هـ = 1172م، لكن بعدئذٍ كانت هناك علاماتٌ مُتزايدةٌ على دبيب نفورٍ بينهما، ومن المحتمل أنَّها كانت ستُفضي إلى قطيعةٍ صريحةٍ إنْ لم يَمُتْ نورُ الدِّين في سنة 569هـ = 1174م. وكان نورُ الدِّين قد حصل في العام الفائت على تقليدٍ من الخليفة يمنحه رسميًّا جميعَ البلاد التي فتحها.

إنَّ وراء ذلكم السَّرْد للحادثات الرئيسة من مَسيرة نور الدِّين الحربيَّة تكمُنُ حقيقةٌ مُعقَّدةٌ، ألا وهي أنَّه اضْطَرَّ – طول مَسيرته – إلى مُحارَبة سلسلة عريضة من المُناوئين، وهم: مُنافِسوه السِّياسيون من أهل السُّنَّة في بلاد الشَّام، والشِّيعة الإسماعيليَّة وغيرهم من الفِرَق في مِصْرَ، وبيزنطة – التي كانت تتدخَّل أيَّامئذٍ في الشأن الشَّاميّ – وأخيرًا وليس آخِرًا الفِرِنْج. ويقول مُعجَبوه إنَّ إخْضاعَه لجميع مُناوئيه العسكريين من المسلمين في بلاد الشَّام، وإنشاءه مِنْطقة مُوحَّدة على الحدود مع الفِرِنْج كانت خطوةً تمهيديّةً ضروريّةً من أجْل الهُجوم على الفِرِنْج أنفُسهم.

في الحقِّ، إنَّ سعي نور الدِّين لتحقيق الوَحْدة بين الشَّام ومِصْر تحت مظلّة حاكمٍ سُنِّيٍّ واحِد – لأوَّل مرَّةٍ منذ القرن الرابع للهجرة = العاشر للميلاد – هو بالضبط ما نادى به الفقيه أبو الحَسَن عليّ السُّلَمِيُّ كخطوةٍ حاسِمةٍ لتطويق الفِرِنْج. مع ذلك، يمكن لمُنتقِدي نور الدِّين أنْ يستوقِفهم في مَسيرته الطويلة – ثمانية وعشرين عامًا – أنَّه وجَّه قدْرًا جليلًا من عمله العسكريّ إلى مُحارَبة أنْداده من المسلمين، وليس الفِرِنْج.

حريٌّ بالذكر أيضًا أنَّ نورَ الدِّين كان يرى من الحكمة في فتراتٍ معينةٍ من مَسيرته الدُّخولَ في مُعاهَدات سلامٍ، فعلى سبيل المثال مُعاهَدته مع بيزنطة في سنة 554هـ = 1159م، ومعاهدته مع حاكم بيت المقدس الفِرِنْجيّ في سنة 555هـ = 1161م.

إنَّ مَثَلَ نورِ الدِّين كمَثَل صلاح الدِّين من بعده؛ إذ من الصَّعب فصل وتقييم دوافعه – سواء كانت دينيّة أمْ شخصيّة أمْ عائليّة – في ظلِّ الشبكة المُعقَّدة من المُنافَسات والمُواجَهات الحربيّة التي شكَّلتْ مَسيرتَه. لكن من الأهمِّيَّة بمكانٍ التأكيد على أنَّ المُؤرِّخين المسلمين لا يألون جَهْدًا في تصويره على أنه حاكمٌ سُنِّيٌّ وَرِعٌ، ومُجاهدٌ عظيمٌ للفِرِنْج. علاوة على ذلك، كان هو – وليس صلاح الدِّين – مَنْ ذاعتْ شهرتُه وسارتْ مَسيرَ الشَّمْس في الأقْطار إبَّان القرون التاليات في العالَم الإسلاميِّ على أنَّه النَّموذَجُ الحقيقيُّ للمُجاهِد. ثُمَّ أعاد المسلمون اكتشاف صلاح الدِّين في القرنين التاسع عشر والعشرين.

يُصوِّر المُؤرِّخون المسلمون القادة العسكريين الأُوَل الذين جاهدوا الفِرِنْج – من أمثال: الأمير إيْلغازي بن أُرْتُق، وزَنْكي والد نور الدِّين على نحوٍ أَخَصَّ – من حيث إنْجازاتهم الحربيَّة في المَقام الأوَّل. لكن في حالة نور الدِّين، فإنَّهم يُولُون مكانَ الصَّدارة للأبْعاد الدِّينيَّة من مَسيرته. وبرغم أنَّ هذا أكثره ليس إلَّا دعاية أو صنْع صورة من قِبَلهم، تبقى الحقيقة أنَّ تلك هي الطريقة التي رغب بها المُؤرِّخون المسلمون – لا سيَّما مُؤرِّخو القرن السابع للهجرة = الثالث عشر للميلاد – في تصوير نور الدِّين. ويمكن القول إنَّ أعظم المُؤرِّخين المسلمين إبَّان العصور الوسطى قاطبةً – وهو عِزُّ الدِّين ابن الأثير (تُوفِّي سنة 630هـ = 1233م) – عمل لدى الزَّنْكيين، وهم “سلالة أُسرة زَنْكي ونور الدِّين”؛ ومن ثَمَّ فهو مُدافِعٌ قويٌّ عن قضية نور الدِّين، بل ينتقِدُ صلاحَ الدِّين في بعض الأحايين.