ذوى صاحبي، ولم يعد ذلك اللهب الذي يضيء لكل من حوله، ورأيت فيه انكساراً لم أعهده فيه، وقد كان شُعلةً من مرح وسرور، وتدفق معلومات، يأنس به كل من يجالسه. وكان في غاية ما يكون الحماس لطلب العلم، ونشره. لم يعد كذلك. فلما سألته عن السبب، قال: هل أجيبُ أنا أم أدع لك الإجابة؟ قلت: لو كنت أعلم ما سألتك. قال: هل جرّبت أن تركب (التلفريك) الذي في أعالي جبال (الطائف) أو(أبها)وتنظر تحتك لترى الأودية السحيقة، وكلما هوى بك صندوق المركبة أحسستَ أنك ستنتقل للدار الآخرة في أية لحظة؟ قلت: جربت وتبت!. قال: أنا كذلك الذي يهوي به الصندوق لكن في كل يوم. أدبرت عني الدنيا بعدما أقبلت. وتغير لي من لم أكن أشك في ودّه وحبه وإخلاصه. ورأيت الوجه القبيح من انقلاب الصديق إلى حاقد وحاسد وشامت. كنت أسمع أبي في صغري يُحذرني من أن أعطي الثقة لكل من هبّ ودبّ وكنت أظنه يتحدث عن تجاربه مع أصحابه هو، وفي نفسي أن أصحابي وأصدقائي ملائكة يمشون على الأرض، حتى دارت الأيام فعلمتُ أن أصحابه هو هم الرجال، وأني خدعتُ نفسي بأكثر أصحابي، فلم يكونوا كأصحاب أبي.

هل جرّبت أن ترى من كنتَ تظنُّ يوماً أنك لن تُلقي له بالاً، ولن تلقي عليه السلام؛ فإذا بك تقف على بابه تطلب حاجةً من حوائج الدنيا؛ جعلها الله في يديه، فتخرج من عنده كما قال شاعرٌ لا أعرف اسمه ( جيتك وانا ضايق وناقصني فلوس.. رجعت ناقصني فلوس وكرامة) ؟! هل جربتَ هذا؟.

هل جرّبتَ أن تكون يوماً ملء السمع والبصر، لا تجدُ وقتاً لنفسك، ثم بعد زمنٍ لا تجدُ إلا نفسك، نفسك التي كرهتها من كثرة مصاحبتك لها؟ وهل يكره أحدٌ نفسه؟ نعم.. أنا كذلك.

هل جربتُ أن تحين منك نظرة خاطفة على (مؤشر بنزين) سيارتك قبل أن تنام، فتجده يشير إلى انتهاء الوقود، فتتقلب طول الليل تُفكر كيف تتدبر أمرك، فتذهب إلى عملك صباح اليوم التالي؟ فتقف من غدٍ في وسط الشارع (وهاتفك الجوال) بيدك تُقلّبه تبحث عن اسمٍ تثق به لتُلقي على مسامعه أنك في ورطة فتأتيك نجدته، فلا تجد؟! هل جربت هذا ؟!.

هل جربتَ أن تأتيك رسالة من أحد أبنائك أو بناتك (بابا .. أنا متحاج فلوس) وأنت تعلم علم اليقين أنك لا تملك ما تطفئ به (لمبة بنزين) سيارتك، فتضيق بك الدنيا بما رحبت، ولا تريد أن تكسر خواطرهم، كما كسرت الدنيا خاطرك. فتقف شارد الذهن تصفق يداً بيدٍ.

هل جربت أن تقرأ أجزاء من القرآن الكريم، ثم يُسلّم عليك من بجوارك فتلتفت ترد عليه السلام ثم تعود إلى الصفحة التي كنتَ فيها فلا تتذكر الآية التي قرأتها؟ فتعود تقلب الصفحات للخلف حتى تتيقن على الأقل أن هذه الآية قد مرّت عليك؟ هل جربت مثل هذا؟.

هل جربتَ أن تُبتلى بجلسة مع أصدقاء يعلمون ما تمر به من انكسار، وهم يتحدثون عن أرصدتهم، ومساهماتهم، وسفراتهم، وأنت لا زلت تُفكر ماذا كنت؟ وماذا صرت؟.

قلت: هل بقي لديك شيء؟ قال: جرّب ما سمعت مني حتى تسكت عني، ولا تطلب مني أن أتظاهر عندك بأني ذلك الذي تعرفه قبل أن ينكسر.

هذه أول مرةً أجد فيها نفسي عاجزاً عن التعليق.

إلى اللقاء..