من تابع المسلسل التركي التاريخي قيامة أرطغرل ومن بعده الآن مسلسل قيامة عثمان وقصة بناء الإمبراطورية العثمانية، سيلاحظ كمية المشاهد التي كانت تدور حول مسألة غاية في الأهمية، التي ركز القرآن الكريم عليها منذ بدايات بناء الدولة في المدينة، وهي مسألة النفاق، سواء النفاق الأكبر الذي يُخرج صاحبه من الملة، أم الأصغر الذي يأتي على شكل غدر أو خيانة، والتأثيرات السلبية لتلك السلوكيات على المجتمع ومن يعيش فيه، وكيف تعاني الدول من حركة النفاق – إن صح التعبير- قبل أن تظهر ومن بعد أن تظهر، وتأثيرها المخرب والمستمر على أساسات ودعائم وتماسك الدولة.
في تلك المسلسلات، يلاحظ المشاهد أن حركة النفاق كانت تلعب أدواراً مؤثرة في إعاقة بناء الدولة واستقرارها وتقدمها. كانت تلك الحركة أشد وطأة على بناة وصنّاع تلك الدولة، من مؤامرات وألاعيب وكمائن الأعداء الخارجيين، الذين ما كانت مخططاتهم تُمرر وتكون ذات أثر، لولا حركة النفاق بالداخل، والتي كانت تستدعي من الدولة، وهي تسير في خطوات البناء والنشوء، التخلص منها قدر المستطاع أو تحييدها وإضعافها، حالما يتم اكتشافها.
الدول عادة تعمل على إضعاف أي حركة نفاق تظهر بالمجتمع قدر المستطاع وليس القضاء عليها، ليس لعدم الرغبة القيام بذلك، بل لصعوبة الأمر، والذي لو كان يسيراً سهلاً كسهولة الكتابة عنها، لكان تولى أمرها مبكراً سيد الخلق محمد ﷺ والقرآن ينزل عليه، وما استدعى كذلك في أول سورة تنزل بالمدينة المنورة في العام الأول للدولة وهي سورة البقرة، أن تتنزل ثلاث عشرة آية عن النفاق، فيما ابتدأت بذكر صفات المؤمنين في ثلاث آيات، وصفات الكافرين في آيتين فقط. ولما استدعى كذلك أن تنزل سورة كاملة تحمل اسم المنافقين، في إشارة مهمة إلى خطورة هذه الفئة أو تلك الحركة على الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين.
حركة ابن سلول
في مكة، عاش المسلمون سنوات وهم مستضعفون، لكن لم تظهر حركة نفاق لأن الوضع لم يكن يستدعي. بمعنى آخر، كان ضعف المسلمين، رغم استشعار الوثنيين من قريش ومن وقف معهم من العرب خطورة ما يحدث، لا يستدعي استنفاراً سريعاً، بل وضع معسكر الكفر في حالة طمأنينة نوعاً ما.
لكن ما إن خرج المسلمون إلى المدينة، ولم يمض على بناء دولتهم عام واحد، حتى ولدت حركة النفاق، وكان المؤسس هو ابن سلول – قبحه الله – الذي استشعر خطر ما يحدث بالمدينة، بعد أن كان يمني النفس أن يكون ملكاً عليها. لكن هجرة شخصية عظيمة بحجم النبي الكريم – ﷺ – أفقدته صوابه ومعه أحلام المُلك. فكانت ردة الفعل عنده هي حركة النفاق التي أنشأها، ليقينه أن قوته لا تكفي لمواجهة الدولة المسلمة، وهذا دليل على أن ظهور حركة نفاق في أي مجتمع، مؤشر على قوة وتماسك المجتمع، ولكي يتم خلخلته وتفكيكه، لابد من صناعة النفاق ودعمه، وهذا هو ما حدث بالمدينة، واستمرت بعدها بالظهور في دول أخرى كثيرة وإلى يوم الناس هذا.
خطورة الحركة
تكمن خطورة حركة النفاق، وتحديداً ما نسميه بالنفاق الأصغر أو النفاق العملي وهو الشائع في أغلب المجتمعات المسلمة، أن أفرادها مسلمون، يشهدون أن لا إله إلا الله. يتكلمون لغة المجتمع، وعاداتهم هي عادات أهل المجتمع، لكن لا يظهر شرهم بشكل واضح، إلا أن بعض أفعالهم وأقوالهم وسلوكياتهم تفضحهم بين الحين والحين، ومع ذلك لا تستطيع الجزم بها من أجل محاسبتهم عليها، وهنا مكمن الصعوبة.
إنك كطرف متضرر من شر تلك الحركة وأفرادها، لا تملك أدلة دامغة على نفاقهم، أو لا يكون أمر الحصول على تلك الأدلة بالسهولة التي يمكن تصورها، ويحتاج الأمر إلى جهد ووقت وموارد، وهي كلها تصب في خانة الاستنزاف غير المبرر لطاقات وموارد الدولة.
ربما هذا يفسر سر تركيز القرآن في سورة البقرة على المنافقين، وتخصيص سورة أخرى لبيان حقيقتهم وخطورتهم وأهمية التنبه إليهم مبكراً، والعمل المستمر على وأد أي مكائد ومخططات ومؤامرات الإضرار بالمجتمع، سواء من لدن أنفسهم أو بالتعاون مع آخرين من خارج المجتمع، حفاظاً على الجهود والموارد وعدم الوقوع في شر الاستنزاف.
كيف نتعرف عليهم؟
بسبب خطورتهم، نجد أهمية التعرف عليهم مبكراً والتعريف بهم، لأجل أن يحْذرهم أحدنا ويحذّر الآخرين منهم. ولقد وصف القرآن بعض مظاهرهم وسلوكياتهم. منها أولاً، سلوك الشك والريبة. فهم لا يثقون بأحد. بل تجدهم خائفين وجلين على الدوام من أن يكشفهم أحد.
يهتمون بمظاهرهم الخارجية. الشكل والهندام والزينة. إن جئت للبيان وفصاحة اللسان، ستجدها عند بعضهم، ممن بلغ مرتبة عالية في هرم النفاق، بحيث لا تستطيع تجاهل بيانه وجمال كلماته وعمقها، وتأثيرها على كثيرين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:” كان عبد الله بن أبي بن سلول وسيماً جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان، فإذا قال، سمع النبي – ﷺ – مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } لكنه هو ومن على شاكلته كما وصفهم القرآن { كأنهم خُشُب مسنّدة } وأبرز ما فيهم أنهم {يحسبون كل صيحة عليهم } أي أن الثقة بأنفسهم معدومة، ويكاد أحدهم يقول خذوني من شدة ارتيابهم. ومع ذلك نبهنا الله إلى أنهم { هم العـدو فاحذرهم } المنافقون : 4.
وقد جاء في حديث متفق عليه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي – ﷺ – قال:” أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصَم فجر“.
حتى لا ندخل عالم النفاق
قد يتساءل أحدكم: لماذا النفاق؟
لماذا يكره البعض دينه وأمته وتاريخه؟
لماذا يعيش بوجهين؟
النفاق الذي أعنيه في هذا الحديث ليس النفاق الأكبر الذي يُخرج صاحبه من الملة، بل الأصغر أو ما يسمونه بالنفاق العملي، الذي يأتي على شكل غدر أو خيانة. هذا النوع من النفاق وهو الغالب في كثير من المجتمعات المسلمة اليوم، أجد أن التربية الإيمانية الصحيحة، عامل رئيسي أول، بل الأهم في ضبط وربط الإنسان ومنعه من الدخول في هذا التيه، أو هذا العالم المنحرف غير السوي، الذي يجده في عالم النفاق والمنافقين.
ثم إن زرع الإيمان في أعماق القلوب منذ النشأة الأولى، والمداومة على التذكير بأساسيات هذا الإيمان، عامل آخر مهم، مع أهمية استحضار مشاهد الخيانات في التاريخ القديم والحديث، ومآلاتها وعواقبها كنماذج للدراسة، يتلقاها الفرد في مراحل التربية والتكوين المختلفة.
تلكم بعض طرق الحماية من نشوء أو ظهور حركات النفاق في أي مجتمع، والذي نسأل الله في الختام أن يطهّر قلوبنا منه، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.