إذا نظرنا إلى مسيرة الحياة من حولنا بكل أبعادها نجد أنها تنطلق من “واقع” إلى “مثال”، في رحلة ممتدة يكون “الفكر” فيها هو الجسر أو الآلة أو البوصلة التي تحدد المسار، وتختار الوجهة.
وبعيدًا عن الدخول في التعريفات المتخصصة في الفكر والفلسفة، فنعني بـ”الواقع”: البيئة التي تحيط بنا، والتي ننشأ فيها بلا اختيار منا، وتفرض علينا مفرداتها؛ وافقتنا هذه المفردات أم خالفتنا.. فنحن حتمًا متأثرون بهذا الواقع، منغمسون فيه..
ونعني بـ”المثال”: الصورة النهائية التي نريد الوصول إليها، أو النموذج الذي ننشده ونحلم بتحقيقه في الواقع المعيش..
وأما “الفكر” فنريد به: الجهد العقلي الذي نبذله ونحن نتأمل واقعنا، ونسعى لتحقيق مثالنا وغايتنا المنشودة..
في الرؤية الإسلامية، فإن “الواقع” بكل أبعاده، له حضوره واحترامه وتقديره، ولا يمكن تجاهله؛ وإلا أصيب المرء بنوع من الانفصام والغفلة.. غاية الأمر، أن الإسلام يتخذ من هذا الواقع قاعدةَ انطلاق لا محطة وصول، وأدواتٍ معينةً لا قيودًا مكبِّلة، ويعمل على تغييره وتجويده رافضًا الاستسلام والخنوع له..
فلقد عاب القرآن الكريم على المشركين استسلامهم لواقعهم، وركونهم إلى ما ألفوه وورثوه؛ وطالبهم باتباع الأهدى والأقوم، لا الواقع والمألوف: {وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 23، 24).
والموقف من هذا الواقع يختلف باختلاف طبيعة الواقع ذاته، وبدرجة قربه أو بعده من المثال المنشود.. لكن التدرج مطلوب في جميع الأحوال، حتى لا تُحدث محاولات التغيير آثارًا عكسية، أو آثارًا جانبية ذات أضرار كبيرة..
ولهذا لم يَنزل التشريع جملة واحدة، وإنما جاء متدرجًا، وسبقته مرحلة تأسست فيها العقيدة، وترسخ الإيمان؛ حتى إذا أُمر الناس بالفعل أو الترك استجابوا طواعية، وسارعوا في تنفيذ الأمر، وتسابقوا.
روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “إنما نزل أوَّل ما نزل منه- أي القرآن- سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام؛ ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدًا.
وهذا المنهج الإسلامي أفاد منه لاحقًا الخليفة الراشد الخامس، عمر بن عبد العزيز، وهو يعالج الانحرافات التي أصابت المجتمع المسلم؛ فقد سأله ابنه عبد الملك قائلاً: يا أبت، مالك لا تُنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال له عمر: لا تعجل يا بنيّ؛ فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة؛ وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذلك فتنة (“العقد الفريد” لابن عبد ربه، 5/ 185).
ومع هذا، فالتدرج لا يعني التباطؤ، كما لا يعني التسيب والتساهل؛ وإنما أن يُقدَّر كل أمر بقدره، وتُعرف لكل حادثة وزنها، ويُعْلَم الأهم من المهم، والحالُّ من المؤجل؛ بحيث يدرك المصلح أو الداعية متى يُقْدِم أو يُحْجِم، ومتى يتكلم أو يسكت.. فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ ولا ينبغي الإقدام متى يحسن الإحجام، أو السكوت حيث ينبغي الكلام، أو الشدة حين يكون الرفق علاجًا.. والعكس صحيح:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا *** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
كذلك “المثال” في الرؤية الإسلامية له حضوره وأهميته؛ فالإسلام جاء ليرشد الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في دنياهم وأخراهم؛ وجاءهم بالحق الذي لا عوج فيه، والهدى وبالنور الذي لا زيع فيه ولا ظلمة.. فكان ما جاء به الإسلام هو “المثال” و”النموذج” الذي يجب اتباعه، والكمال الذي ينشده كل عاقل تخلَّص من هواه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (النساء: 174، 175)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57).
والإسلام وهو يسوق الناس إلى “المثال”، فإنه لا يعنتهم ولا يشق عليهم، ولا يوقعهم في المشقة والحرج، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون؛ بل جاءت الشريعة بالرحمة والرفق واللين، وأخذت في اعتبارها مصالح الناس وحاجاتهم، ولم تتجاهل طبائعهم وغرائزهم.. غاية ما هنالك أنها هذَّبت هذه الغرائز والطباع، وقوَّمت ما قد يصيبها من انحراف..
جاء ثلاثة رجال إلى بيوت النبي ﷺ يسألون عن عبادتهم، “فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا”.. وعزموا على الزيادة فيها زيادة تتجاهل الطبيعة الإنسانية، والدوافع الفطرية؛ فقال لهم النبي ﷺ مبينًا المنهج الصحيح، الذي يجمع بين “المثال” و”الواقع”: “أما واللهِ إنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وأَتْقَاكُمْ له؛ لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي” (رواه البخاري عن أنس بن مالك).
قال ابن القيم رحمه الله: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها; فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث; فليست من الشريعة وإن أُدْخِلَتْ فيها بالتأويل; فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﷺ أتم دلالة وأصدقها؛ وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل” (“إعلام الموقعين عن رب العالمين”، 3/ 12).
وأما “الفكر” فهو الجسر الذي ينقل الإنسان من “الواقع” إلى “المثال”.. مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون.. من الأزمات إلى العلاج..
وهذا “الفكر” إنما هو جهد بشري، حتى لو تأسَّس على “مثال” إلهي، أي على الوحي النازل من السماء، والمنهج الذي رضيه الله لعباده.. فليس لأنه فكر يتأسس على الوحي المعصوم، يكتسب العصمةَ نفسَها؛ وإنما يبقى الفكر الإسلامي جهدًا بشريًّا قابلاً للصواب أو الخطأ بقدر اقترابه أو ابتعاده عن الوحي: المنزَّه عن الخطأ، المعصوم من التبديل والتغيير: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
قال معن بن عيسى القزاز: سمعت مالك بن أنس يقول: إنما أنا بشر أخطى وأصيب؛ فانظروا فى قولى، فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه (“جامع بيان العلم وفضله” لابن عبد البر، 1/ 775).
ونحن مطالَبون بأن نُعمل أفكارنا، ونجتهد ما وسعنا الاجتهاد فيما يقبل الاجتهاد ويصح فيه إعمال العقل.. لأن ذلك هو “الشكر العملي” لنعمة العقل، التي هي نعمة جليلة القدر، مُيِّز بها الإنسانُ من الحيوان، والإنسانُ المكلَّف من غيره؛ حتى إذا انعدمت سَقط التكليف ورُفِع القلم، كما جاء بالحديث الشريف.
أزمتنا الحضارية
ونستطيع أن نلاحظ في هذا المقام، أن أزمتنا الحضارية يمكن أن نُرجعها- بشيء من الإجمال- إلى أننا لم نضبط العلاقة الصحيحة بين هذه الثلاثية المهمة: “الواقع” و”المثال” وما بينهما من “الفكر”.. فحن لم نعرف واقعنا حق المعرفة، ولا أحطنا بخرائطه وتشابكاته على النحو المرجو.. ولم نعرف مثالنا ونفهمه حق الفهم.. ولم نُعمل عقولنا ونجتهد الاجتهاد المطلوب الذي تفرضه علينا مشكلاتنا، ويتناسب مع أخطارها..
صرنا بين من يستسلم لواقعه، ومن يصيبه الانحراف في فهمه..
بين من يتحجَّر أو يتشدَّد أو يضلّ في مثاله، ومن يفترض لنفسه مثالاً غير ما رضيه الله لخلقه..
بين جامد في فكره، يرى العقل رجسًا من الشيطان، ومن يؤله العقل ويستعلي به على ما جاءنا من البينات والهدى بالوحي الخاتم..!
وعلى هذا، فإذا أردنا خروجًا من هذه الأزمة الحضارية فعلينا أن نراجع موقفنا من أطراف هذه الثلاثية.. وأن نصحح النظر لـ”واقعنا”، ولـ”مثالنا”، ولما ينبغي أن نسلكه من “الفكر” في رحلة الانطلاق بينهما؛ أي من المعيش إلى المأمول..