وثبت الأجر إن شاء الله : يمضي رمضان كما مضى شعبان، وكما سيمضي شوال، ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه الأيام المباركة أيام خير وسعد على بيوتنا وقلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، وأن تكون فاتحة خير وبداية رشد وهداية علينا وعلى المسلمين.
تمر هذه الأيام فيكتب الله تعالى للسعداء حسنات تبيض بها وجوههم وتثقل بها موزاين حسناتهم، هل يمكن أن يبقى للمسلم شيء آخر غير الحسنات يستفيد به فيما بقي من حياته؟
إذا ذهبنا إلى قول النبي ﷺ عند الفطر من الصيام: “ذَهَبَ الظَّمَأُ ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ”[1] وجدناه يعطينا أحد مفاتيح السعادة في الحياة، فشعور الصائم بالعطش الشديد يزول عندما يتناول أول جرعة ماء، عندما ننقل هذا المعنى إلى حياتنا، نجد أن الآلآم تصيب الإنسان؛ آلام الجوع والحرمان والفقر، آلام المرض، آلام الوحدة والغربة، كل هذه المعاني تذهب عندما يحضر الطعام ويأتي المال ونسترد العافية ونلتقي بمن نحب.
سرعة زوال الآلام يصورها لنا النبي ﷺ بقوله: ” يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ [2]
التحقق من سرعة زوال الألم بمجرد العافية ينبغي أن يكون حاضرا في أذهاننا كلما ثقلت المصيبة، واسودت الدنيا وضاق الصدر، وعجز اللسان عن التعبير عن كمية الألم الرهيبة التي نعاني منها.
وثبت الأجر إن شاء الله
عبارة دالة على حسن الظن بالله تعالى والطمع في فضله، فالناس مؤمنهم وكافرهم وطائعم وعاصيهم يصيبهم الظمأ، وتمر عليهم اللحظات العصيبة فمنهم من تضيق عليه الدنيا ويتسخط على قضاء الله تعالى، ومنهم من يحسن التعامل فينجيه الله من الكرب ويعطيه الأجر، بين لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة كيف نحصل على الأجور العظيمة من خلال التعامل مع المصائب وذلك فيما يلي:
1- معرفة أن الدنيا دار اختبار تختلط فيها الشدة بالرخاء والنعمة بالمصيبة، وكلما كان الإيمان قويا استطعنا بفضل الله تعالى أن نتجاوز هذه الأزمة بأقل الخسائر، وأن نتعلم منها دروسا نعطيها لمن حولنا حتى لا يتألموا كما تألمنا، فتتحول هذه التجربة الصعبة على النفس إلى مصدر إلهام للآخرين.
لقد مرت علينا أزمات وأزمات وأخرجنا الله تعالى منها من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب، ومهما كانت هذه الأزمة أشد مما قبلها فإن جملة “الله أكبر” التي نسمعها في الأذان ونرددها في الصلاة وخارجها،ترسخ في نفوسنا قول الله عز وجل {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 9].
ونتذكر مع خروجنا من الأزمات السابقة، نعم الله تعالى التي تغمرنا فلا ينبغي أن تنسينا الشدة ما سبق من إحسان الله تعالى لنا وفضل الله علينا.
2- علمنا الله تعالى كيف نتعامل مع الأزمات عندما قال سبحانه {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، لم يقل سبحانه وتعالى نستعين بالصبر والصلاة على ماذا؟ فكل أمر يصعب علينا، نستعين عليه بالصبر والصلاة؛ والصبر هنا ليس عملا سلبيا يقف فيه المسلم مكتوف الأيدي يشعر بالعجز، بل الصبر نصف الإيمان وهو عمل الأنبياء والصالحين في إصلاح الناس والخروج من المآزق، حيث يفكر المسلم بروية ويتدبر أمره ويراقب حاله وحال من حوله بصبر، إنه يحاول ويسقط ولكنه لا ينكسر، يملك من الدأب والاجتهاد ما يستمده من يقينه في الله تعالى، وكما يستعين المسلم بالصبر – وهو عدة الناجحين في كل زمان ومكان – يستيعن بالصلاة، قال النبي ﷺ عن الأنبياء السابقين ” وَكَانُوا يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ [3].
لكننا نصلي ونخرج من الصلاة وأزماتنا كما هي!!، التعبير الدقيق أننا نقوم ونركع ونسجد ونجلس للتشهد، لكن في ظل أزماتنا هل استشعرنا قول النبي ﷺ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»[4]؟؟فخاطبنا الله تعالى مخاطبة الغريق إذا رأى من ينقذه، وكان بين يدينا نور قوله سبحانه{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].
إن الصلاة التي نستعين بها على تجاوز الأزمات هي التي تتصل فيها الأرض بالسماء، فتكون جبهة المسلم على الأرض وقلبه ساجد تحت العرش، يشعر بقرب رحمة الله ولطفه بعباده، ولكن هذا المستوى من الصلاة يحتاج إلى صبر وسعي وجهاد،{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]وأن ندرك أن الصلاة هي أحد الوسائل التي تساعدنا في تخطي الأزمات. فإذا صلى الإنسان الصلاة التي يقترب فيها من ربه أرشده الله تعالى لأبواب الفرج، وسخر له من يساعده.
3- السعي ونتذكر أمنا هاجر لما تركها الخليل عليه السلام في واد ليس فيه من أسباب الحياة شيء، ونفد الماء والزاد ،ذهبت بحثا عنهما أو عن من يحملهما ويصف النبي ﷺ حالها وما بذلته فيقول: ثُمَّ سَعَتْ سَعْىَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ وفعلت ذلك سبع مرات”[5] بين الصفا والمروة، بذلت كل ما يمكنها لكي تروي ظمأها وظمأ وليدها، إن سعي المؤمنين للخروج من الشدائد عبادة، وهو تكليف شرعي ،وخلال هذا السعي يسلك المسلم الطريق الشرعي لأنه أقصر الطرق، وفيه يجد معونة الله تعالى وتوفيقه، يسعى وهو يتذكر يقين أمنا هاجر حين قال لها الملك:” إن الله لا يضيع أهله”[6].
4- وأحد الأمور التي تقينا من الشدائد وتعيننا على الخروج منها معاونة الناس، قال النبي ﷺ ” وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”[7] ،فيقين المسلم أنه عندما يفرج كربة أخيه المسلم أو يساهم بأي مساهمة تخفف العبء عن الآخرين، فإن الله تعالى سيزيل هذه الكربة عنه فالجزاء من جنس العمل.
5- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام ونادى ربه” قالت الملائكة: يا رب هذا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ”[8] .
فالملائكة تتشفع للعبد الذي عرف الله وقت السعة لكي ينجيه الله عز وجل وقت الضيق، وما أحسن حكاية العتبي -رحمه الله- الذي قال: “كنتُ ذاتَ يوم في بادِيَةٍ وأنا بحالة مِن الغَمِّ، فأُلقِيَ في رُوعِي بيتٌ مِنَ الشِّعر، فقلتُ:
أرىَ الموتَ لمن أصبحَ ** مغمومًا لهُ أروح
فلَمَّا جنَّ الليلُ سَمِعتُ هاتفًا يهتفُ مِنَ الهواء:
ألا يا أيـها الـــــــــــــــمرء ** الذي الهـــــم به بــرح وقد أنشـــــــــد بيتًا لـــم ** يزل في ذكره يسبح إذا اشتد بك العسرى ** ففكر في ألم نشرح فعسر بيــن يسريــــــــن ** إذا ذكرته تفــــــــــرح فإن العسر مقـــــــرون ** بيسرينِ فلا تتــــرح
قال العتبي: فحَفِظْتُهُما، فَفَرَّجَ الله عنِّي”[9]
لكن بعض الناس لا تستطيع أن تخرج من منطقة الألم مهما مر على هذا الألم من وقت، تستحضره حتى في أحلى ساعات الفرح، فينغص عليها اللحظات السعيدة ويحرمها بهجة الحياة والشعور بفضل الله عليها، وهؤلاء يهلكون أنفسهم.
إن الآلام تمر بجميع الخلق وكذلك المصائب، والمسلم الحق هو الذي ينتفع بها فيثبت أجره عند رب كريم، لأنه يرضى بقضائه لثقته بحكمته سبحانه وتعالى، ويحقق عبادة الصبر والصابرون صبرا حقيقيا يوفون أجورهم بغير حساب، وينجون من الآثار النفسية والبدنية السيئة التي تخلفها الأزمات.
[1] المستدرك وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ
[2] صحيح مسلم
[3] مسند أحمد وقال محققوه إسناده صحيح على شرط مسلم
[4] صحيح مسلم
[5] صحيح البخاري
[6] صحيح البخاري
[7] صحيح مسلم
[8] جامع العلوم والحكم
[9] المعين على تفهم الأربعين لابن الملقن