دخلت الحضارة الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أزمة وجودية عميقة، عبرت عن نفسها بظهور نظريات ما بعد الحداثة التي تشكك في جدوى الحداثة وفي القيم الأخلاقية والمعرفية السائدة، وتعبيرًا عن هذه الأزمة شرع بعض الغربيين الباحثين عن المعنى في التحول نحو الشرق ومطالعة الفلسفات والديانات الشرقية، وقد استطاع الإسلام أن يجتذب بعضًا من فلاسفة الغرب ومفكريه بدءًا من عقد الثمانينات الماضي الذي افتتح بإعلان الألماني مراد هوفمان إسلامه ثم تبعه الأمريكي جيفري لانج، والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي رأى في الإسلام بديلا عن الحضارة الغربية بما يحمله من رؤى وإمكانات روحية ومادية، وهي التي أطلق عليها غارودي “Promesses de l’Islam” أو وعود الإسلام، وصاغها في كتاب مستقل اتخذ ذات الاسم بعيد فترة قصيرة من إسلامه، ونال عنه جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1985.
التوحيد والحرية
أولى وعود الإسلام يجدها غارودي في مفهوم التوحيد، ذلك المفهوم المركزي الحاكم في الإسلام الذي ينظم الأشياء ويربطها فلا ترى منفصلة عن بعضها البعض ولا كثنائيات متضادة؛ ففي الإسلام “العلم متصل بالدين، والعمل مرتبط بالإيمان، والفلسفة مستوحاة من النبوة، والنبوة متصلة بالعقل، والأرض غير بعيدة عن السماء، والسماء على اتصال بالأرض، والتقدم الحضاري يسير صعدا نحو الله”.
وبحسب غارودي فإن مفهوم التوحيد يشكلُ حجر الأساس لمسئولية الإنسان وحريته وإرادته، خلافا لما يُشاع من أنه يؤسس للإذعان والتسليم، فإذا كانت الحيوانات والنباتات والجمادات موحدة بمعنى من المعاني، فذلك بحكم قانون التسليم الذي يحكمها وليس بفعل خياراتها وإرادتها الحرة، أما الإنسان فهو وحده القادر على أن يصبح مسلماً بالاختيار، وهو مسئول مسئولية تامة بما يمتلكه من إرادة الرفض، وبموجب مبدأ الاستخلاف، فالإنسان خليفة لله والخليفة ليس منفذاً قدرياً لا يملك من أمره شيئا، إنما هو مسئول ومكلف عن فعاله وخياراته.
ويفترض غارودي أن أمام الإنسان المعاصر أحد خيارين:
الأول: أن يكون أكثر الحيوانات تقدماً، وفي هذه الحالة لا يكون الفارق بينه وبين الحيوانات الأخرى سوى فارق كمي باعتبار أن رأسه يحتوي على عدد أوفر من الخلايا، وأن يده أكثر براعة، الأمر الذي يمنحه وسائل أكثر لتحقيق رغباته الحيوانية كالغذاء والمسكن والتكاثر التي يشترك فيها مع سائر الحيوانات الأخرى.
والثاني: أن يحاول الإنسان الارتقاء من مرحلة المادية إلى الروحية، ومن مرحلة الفعل إلى مرحلة المعنى؛ معنى حياته وموته حيث ينفرد بقدرته على طرح تساؤلات عن معنى الحياة ومغزى الموت.
وليس صحيحا أن التوحيد يكرس للفردية، بل على النقيض تماماً فمن خلال التوحيد تظهر فكرة الجماعة المتماسكة المسئولة أمام الله، وحسبما يعتقد غارودي فإن التسامي فوق المادة، والأمة هما المحوران المتجاذبان اللذان لا يتجزأن في رسالة الإسلام، والإسهام الذي يستطيع أن يقدمه لخلق واقع ومستقبل إنساني أفضل، فمفهوم الجماعة أو الأمة الذي يكرسه الإسلام مفهوم عالمي يسمو فوق: القبيلة والطبقة والقومية والأيديولوجية، وهي مبنية على وجود يقين لدى كل مسلم أنه مسئول عن مستقبل الآخرين، وهو ما ينافي الفردية الغربية التي تعد الفرد معيارًا ومقياسًا لكل شي.
العلم والمعنى
وإذا كان بمقدور الإسلام تقديم منظومة إنسانية أخلاقية متكاملة تحقق التوازن المفتقد بين الفرد والجماعة، فهو قادر كذلك على طرح منظومة معرفية تصوب مسيرة العلم الغربي الذي افتقد الوجهة الصحيحة على يد “أنبيائه الكذابين” الذين بشروا به كدين للوسائل والمادة دون الروح، ففي الإسلام ليس هناك جدار ما بين العلم والحكمة، فلا يتم التغافل عن الغاية والمعنى من وراء العلم كما هو الحال في العلم الغربي، ولا تُدرس الأشياء وعلاقاتها والظواهر وقوانينها بمعزل عن الكل الذي يضفي عليها المعنى، وعلى ضوء هذا الفهم غدا المسجد/المدرسة نقطة الانطلاق ومركزا لتعليم العلوم الدينية جنبا إلى جنب مع العلوم العقلية والتجريبية، حيث تآلفت واندمجت جميع العلوم في وحدة واحدة.
ويلفت غارودي الانتباه إلى أن أبرز سمات العلوم الإسلامية المستقاة من عقيدة التوحيد، هي اعتمادها المتبادل وترابطها بعضها ببعض؛ فليس ثمة انفصال بين علوم الطبيعة والمرئيات وعلوم الدين والفنون، وليس ثمة فاصل أين يبدأ العلم وأين ينتهي، وهو ما يفسر ظهور عدد كبير من العباقرة الموسوعيين في الثقافة العربية على نحو لا نجد له مثيلا في الحضارات الأخرى، ويضيف غارودي أن العلوم الإسلامية لم يتم تطويرها بمعزل عما يعتبره الإسلام هدف ومعنى للوجود، فقد ظل سؤال الغاية يلح على الأذهان ولم يطرح قط سؤال الكيفية.
إن تأكيد علماء المسلمين على تسامي العلم باعتباره عند الله تعالى يعني من وجهة نظر غارودي أمران: أن العلم يحمل غايات أسمى وأنبل من غايات أي إنسان أو أي مجتمع بشري. وأن هنالك استعمال آخر للعقل غير الاستعمال الذي ينحدر من سبب إلى سبب، ومن سبب إلى نتيجة، عقل يصعد من غاية إلى غاية، ومن غايات ثانوية تابعة إلى غايات أسمى دون أن يبلغ قط التوحيد الأسمى الذي يحيط بسائر الأمور، وهو ما يجعل الادعاء بقدرة العلم على الاحاطة وتفسير كل جوانب الحياة محض زعم وافتراء.
الفن والتجريد
بُعد آخر استرعى انتباه غارودي واعتبره أحد وعود الإسلام ألا وهو الفن، والفن في الإسلام ليس كنظيره الغربي مجرد عن القيمة والمعنى وإنما هو يعبر عن تجربة روحية للفنان المسلم، وهو ليس مجرد زخارف ونقوش مجردة وإنما هو رؤية كلية للعالم توحي له بغايته وبموضوعاته، وحسبما يعتقد غارودي فإن “جميع الفنون تؤدي إلى المسجد، والمسجد يحمل على الصلاة، …وهو نقطة الالتقاء لجميع الفنون” وبنية المسجد تعبر عن أهم مميزات الفن الإسلامي وهو “الحيز الفارغ” والتجريد فالمحراب لا يأوي أي أيقونات أو تماثيل، الأمر الذي يحمل على الشعور أن الله حاضر وموجود في كل مكان دون أن يُرى بالأعين، وهذا الفراغ نابع من جوهر العقيدة الإسلامية التي ترفض التجسيد، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن التعبير عنه وتجسيده من خلال أي مجاز دنيوي، ولذلك فالزخرفة الوحيدة المسموح بها داخل المسجد هي أشكال هندسية متكررة ومتشابكة إلى ما لا نهاية ترمز إلى امتداد روح الله وحضوره السرمدي.
ويعبر الفن الإسلامي إلى خارج المسجد ليكون آية على حضور الله وليذكر بالحقيقة القرآنية الخالدة ” ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله” البقرة : 115، ولذلك فإن كل شيء حتى أكثر الأشياء تداولاً واستعمالا كالملابس وأدوات المائدة، بل وأشدها فتكا كالسيوف تُنقش وترصع لتكون شاهداً وآية على حضور الله، فنظرة التقوى تعثر على أثر الله في أبعد الميادين عن مراكز العبادة مؤكدة على عقيدة التوحيد، وأنه لا تعدد في المراكز وإنما الكل يدور حول مركز واحد.