أن تمسك بالفكرة وهي ملتهبة بين أصابعك أمرٌ لا يطيقه إلا من وُهب قوة الاعتقاد بما فيها من هزات عميقة، ومِنح عظيمة، وبذور خلاص من وضع مُخلّ بالفطرة السليمة. كذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم يجابهون قوى الشرك والضلال، بكل ما أوتيت من جاه ومال، وسلطان رِق على الأبدان، أو عصبية متعنتة إزاء الفرد وإرادته الحرة.
أمسكوا بتلابيب الوحي فلم يفارقوه، وصدّقوا حامل الرسالة فلم يخذلوه، وبذلوا في سبيل ذلك حطام الدنيا وزينتها. فانقلب معبودُ الأمس حجارةً لا تضر ولا تنفع. وانبثقت من التعدد القبلي والتفرق العصبي نواةُ حضارة خادمة للوجود الإنساني، دون تمييز بين العربي و الأعجمي، أو بين الأحمر والأسود إلا بالتقوى.
من ألطف العبارات التي كان يوصف بها انتقال أحدهم من الكفر إلى الإيمان بالله زمنَ الرسالة أن يقال: فلان شرح الله صدره للإسلام. وحين سُئل النبي ﷺ عن المُراد بِشرح الصدر في قوله تعالى: ﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾ الأنعام-126 قال: نور يقذفه فيه، فينشرح له وينفسح. فالفرق إذن بين من وُلد خارج دائرة الإسلام أو على حافتها، ثم انتشلته يد العناية الإلهية، وبيننا نحن الذين وُلدنا بهوية وديانة محددتين، يكمن في تلك الهزة الوجدانية العميقة، وما تنفعل له أحاسيس الناطق بكلمة التوحيد لأول مرة. إنه شعور حتى لو جرّد له بعضهم قلمه، ستظل الكلمات حيرى أمام سنا برقٍ يلمع فجأة، ثم يترك للقلوب أن تُمجّده بآلاف العبارات. إنه شيء يُجَرَّب ولا يوصف.
كان النطق بكلمة التوحيد إصرارا فائقا على التحرر من عوائق النفس والواقع. الأولى ممثلة في العوائد والتقاليد، والثانية تعبر عنها ركائز النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي أرساه “الملأ” خدمة لمصالحه. وفي قصص التعذيب التي شهدتها بطحاء مكة يتجلى ذاك الإصرار على استعادة الحرية باعتبارها جوهر الإنسان المكنون.
يُؤتى بخباب بن الأرت رضي الله عنه حين تشتد حرارة الظهيرة، فيُلبسونه دروع الحديد، ويُترك حتى يبلغ به العطش حدا لا يُطاق؛ ثم تبدأ مفاوضات الماء مقابل الرضى بأغلال الاستعباد، فيأبى الصدر الذي انشرح للإيمان أن يتردد فيه معنى آخر غير التوحيد. إن خبابا ومعه العشرات من مستضعفي مكة، عاينوا تكلفة الخروج من الظلمات إلى النور فتحملوها، لأن تأوهات الجسد في واقع كالذي عاشوا فيه أخف وطأة من انطماس البصيرة، وسفه العقول، وخلو الحياة من معنى أو قيمة. كان إشراق التوحيد في قلوبهم عاملَ تحرير وتحرر. وأمدّتهم آيات القرآن وكلمات الرسول ﷺ بالقوة الدافعة حين كشفت عن الإنسان – خليفة الله في الأرض – الذي تدور حوله كل المخلوقات لتخدم وجوده الأسمى. وشتان بين هذا التكريم وبين الجاهلي الذي يدور حول الحجر والشجر، وحول القبيلة والمحبوبة، كأنه ذرة رمل تسفعها ريح الصحراء.
حدث إذن ما يسميه الأستاذ محمد فريد وجدي بانقلاب لا نظير له في النفسية العربية، ويقظة للعاطفة الدينية بكل ما تحيل عليه من تجرد وسمو وعظمة. غير أن الحرية بدون تهذيب قد تتحول إلى عامل هدم، فكان لزاما أن يستدعي الوحي، ومعه التوجيهات النبوية، منظومة الأخلاق السائدة لتهذيبها والارتقاء بها، وتوجيه نظر المسلم وسلوكه إلى أن القيم منذ الآن غاية وليست وسيلة لمطمع دنيوي.
لقد جاء النبي ﷺ ليتمم مكارم الأخلاق، ويسمو بالعلاقات الإنسانية لتتحرر من النفعية الضيقة؛ حيث الشجاعة غايتها إعلاء كلمة الله، وحاتمية العطاء مقرونة بالعبارة القرآنية الفريدة {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}-الإنسان:9. أما الأواصر الاجتماعية فتمتد لتشمل كل ذي كبد رطبة. بل وسّع النبي ﷺ إطارها حين أضفى على ما نعتبره جمادا سمة الود. ألم يقل ﷺ عن أحُد: جبل يُحبنا ونحبه؟
كان العربي في شعره يبث لواعج شكواه للناقة والحصان، فأصبح بعد إسلامه مسؤولا عن الأحياء والأشياء دون تمييز. له حق تسخيرها والانتفاع بها، ويتوجب عليه رعايتها وصون بقائها. لذا لم يشهد التاريخ حاكما يخشى أن يسأله ربه عن دابة عثرت: لِم لم تُمهد لها الطريق يا عمر؟!
تولّد عن الحرية المنضبطة للقيم وبالقيم استعلاء إيماني تُصر عليه الآية الكريمة {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}-البقرة:177، فاندفع المسلمون في كل أنحاء الأرض للإعمار والبناء، وتوجيه دفة التاريخ والحضارة في زمن قياسي. ولم يكن مصدر استعلائهم، يقول الأستاذ محمد قطب، أنهم ذوو رجال أو مال أو جيوش أو علم أو حضارة. وإنما كان مصدر استعلائهم أنهم مؤمنون، وأنهم على حق.
كيف نعمل، نحن الوارثون لعظمة الدين الإسلامي، حتى نستعيد هذا النهج بمراتبه الثلاث؟
وبأي العوائق نبدأ حتى تنحل العقد واحدة بعد الأخرى؟
لازال بعضنا يبتهج بوقوفه على أكتاف السلف عوض أن يقف على قدميه لتنغرز في أرض صلبة كما فعلوا .
ويأبى البعض الآخر إلا أن يمحو حضورهم من سجل التاريخ، زعما منه أنه الحل لبداية مشرقة !
أما الطرف الحائر فيقف أمام المراتب الثلاث باكيا، متحسرا، ومترقبا لنصر يأتي بالبريد !