قال تعالى : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } (الفجر: 24)
الإنسان منا ما إن يبدأ يتنفس أكسجين الهواء لحظة ولادته حتى لحظة وفاته، وهو يعيش خطوات ومراحل من المشقة والتعب، بسبب طبيعة الحياة الدنيا، التي قد يدرك أحدنا مغزى وجوده فيها، وربما آخر لا يدركه. الأول بإدراكه المغزى، استثمر حياته كما ينبغي، فيما الآخر لا إدراك ولا استثمار، فيخرج من عاجلته إلى آخرته بالقليل من متطلبات السعادة الأخروية، ليعيش حيناً آخر من التعب والنصب والمشقة، لا يعلم مداها إلا الله.
إن ما بين قوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في كبد } (سورة البلد : 4) وقوله: { يا ليتني قدمت لحياتي } حياة قد تكون قصيرة أو طويلة، لكنها مليئة بمفاهيم وحقائق كثيرة، والغرابة أن يظل الإنسان يبتعد عن محاولات فهم تلك الحقائق واستيعابها، ربما بشكل يثير كثير تساؤلات، كما لو أنه يتعمد عدم الفهم.
التهافت والتقاتل والصراع على الدنيا، والحاصل الآن في كل بقاع العالم، بل منذ أن خلق الله آدم – عليه السلام – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مثال واضح على عدم رغبة هذا الإنسان فهم حقائق الدنيا العاجلة. لكن على رغم إدراكه أن صراعه مع الآخرين إنما هو على توافه وهوامش – مقارنة بما في الآخرة – إلا أنه مستمر فيه بجد واجتهاد عجيبين. إنه أمر يدعو لكثيرمن الدهشة والاستغراب. فكيف يحرص أحدنا على شيء زائل لا محالة، وإن امتلكه طويلا وليت الأمر يقف عند الزوال، لقلنا إن الأمر ربما يستحق ذلكم الجد والاجتهاد. لكن مع ذلك الزوال الحتمي لكل متعلقات هذه الدنيا، هناك محاسبة أخروية دقيقة على الزوائل تلك، لاسيما إن كانت ستورث حسرة وندما.
ندم على التفريط
الآية الكريمة من سورة الفجر، يخبرنا الله تعالى – كما جاء في تفسير الطبري – عن تلهُّف ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في الصالحات من الأعمال في دنياه، التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له في آخرته. يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي الحقيقية هذه، التي لا موت بعدها. هكذا لسان الحال والمقال يوم القيامة. وصول الإنسان إلى لحظة الحسرة والتمني على ما فات وضاع بالدنيا، أمر حتمي لا ريب فيه. كلنا سيدرك تلكم اللحظة، بغض النظر عن صلاح أي منا أو فساده. فالإنسان يومئذ – كما جاء في تفسير ابن كثير – يندم على ما كان سلف منه من المعاصي، إن كان عاصياً. ويود لو كان ازداد من الطاعات، إن كان طائعاً. وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – قال: لو أن عبداً خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في طاعة الله، لحقره يوم القيامة، ولود أنه يردّ إلى الدنيا كي يزداد من الأجر والثواب.
الصالح يندم على أنه لم يبذل جهداً أكبر وصرف وقتاً أطول في عبادة الله، والإكثار من الخير. فيما الفاجر والفاسق والكافر ومن على شاكلتهم، يندم أحدهم على إضاعة الأوقات والجهود والأموال على ما لا فائدة تُرجى منه في مثل هذا اليوم. يندم ويعض على يديه أنه لم يمهد ما ينفعه اليوم، حيث حساب ولا عمل.
يومئذ يتذكر الإنسان
سيتذكر الإنسان بالقيامة مشاهد عديدة من حياته الدنيا الفانية. سيتذكر ساعات طوال عاشها في غفلة عن حكم الابتلاءات المتعددة التي مرت به، سواء في ابتلاءات المنع أم العطاء – كما يقول سيد قطب في ظلاله عن هذا الإنسان « الذي أكل التراث أكلاً لمّاً، وأحب المال حباً جما، والذي لم يُكرم اليتيم ولم يحضُّ على طعام المسكين، والذي طغى وأفسد وتولى. يومئذ يتذكر.. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى، ولكن فات الأوان ( وأنّى له الذكرى ). لقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً. وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا «.
مسألة تدعونا إلى ضرورة إدارة حياتنا بحكمة، واستثمارها بأفضل ما يمكن، كي لا يتكرر الكَبَد والعناء مرة أخرى في حياة أخرى حقيقية قادمة لا ريب فيها. فمن ذا الذي يرضى العيش في عناء ومكابدة مرتين متتاليتين من بعد أن أدرك وضوح الأمور والأشياء؟ من ذا الذي يريد تكرار قسوة وعناء الحياة الدنيا، ليجدها تارة أخرى في حياته الأخروية؟ لا أشك حكيماً، بل من به بعض عقل، يرضى لنفسه الشقاء مرتين. شقاء العاجلة وشقاء الآخرة، وإن كان الشقاء الآخر، أشد وأنكى.
خلاصة الحديث أن « الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على الله الأمانيّ «. هكذا وصية نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، واضحة جلية. فالكيّس الفطن هو من يغتنم الفرص الدنيوية الكثيرة لتنمية ودائعه في بنوك الآخرة. ومن فاته ما فات من عمره الذي مضى، فلا زال هناك بعض وقت، لأن العبرة بالخواتيم. فاللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك وخير أعمالنا خواتيمها.