للعلم مكانة عالية في الإسلام ويكفي للتدليل على ذلك أن أول ما نزل من القرآن من كلماته قوله تعالى هي كلمة “إقرأ”، كما أنه صفة من صفات الله جل جلله: {وهو السميع العليم} (العنكبوت: 13)، وقد أمر به عز وجل قبل العمل، وأمر الرسول –
ﷺ- بطلب الاستزادة منه فقال: {وقل رب زدني علما} (طه:114). فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مكانة العلم في الإسلام لا تدانيها مكانة وقال الله أيضا في كتابه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }(
الزمر:9) وقال عز من قائل:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجادلة: 11). ولقد أوضح رسول الله
ﷺ مكانة العلم وفضيلة طلب العلم في حديث يدفع كل من قرأه بتدبر إلى المسارعة في طلب العلم وإفناء العمر في سبيل تحصيله فقال : “من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإنه يستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن
العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورثوا دينار ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن اخذ به اخذ بحظ وافر. وقال الإمام
الحسن البصري : “لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم ، تعلموا العلم فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد ،وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين والصبر على الضراء والسراء والقريب عند الغرباء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواما في الخير فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم ،أدلة في الخير تقتفى آثارهم وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ،وبأجنحتها تمسحهم ،لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد ، وبه يمجد وبه تواصل الأرحام ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء..”.
خير أمة
وتعتبر الدعوة في كتاب الله للقراءة تعتبر كما قال بعضهم دعوة إلى العلم و إلى المعرفة وإلى البحث والنظر إلى الحق واليقين . ومعنى ذالك أن الإسلام منذ اللحظة الأولى حض على العلم وأشاد بالمعرفة ، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعوا إلى البحث والنظر ، واكتشاف نواميس الكون وكنوز الأرض ،يقول الحق جل وعلا:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (يونس:101) وقال أيضا {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(العنكبوت:20). لكن العلم المشاد به لا يقتصر على العلوم الشرعية بل يشمل كل العلوم التي تحتاجها الأمة ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل العلوم التي تفيد الأمة طلبها فرض كفاية بما في ذلك العلوم الشرعية، وقصر فضل العلم على العلوم الشرعية دون سواها سبب أدى ويؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة والتقدم، ولا يمكن للمسلمين أن يصيروا خير أمة أخرجت للناس كما قال بعض العلماء إلا إذا تفوقوا على سائر الأمم في اتجاهين وفي آن واحد معا :
الاتجاه الأول : هو الاتجاه القيمي الأخلاقي ، بمعنى أن يكونوا مثالا يحتذي في معاملاتهم وفي سلوكياتهم وما يتمسكون به ويدعون إليه من قيم رفيعة وأخلاق سامية .
الاتجاه الثاني : فيتمثل في تفوقهم في امتلاك أسباب القوة بمختلف انواعها وأشكالها ؛ القوة الاقتصادية والسياسة والفكرية والعسكرية والعلمية ، وهذا يعني أن يطورا وباستمرار معارفهم وعلومهم في شتى المجالات الآنف ذكرها …
العلم والهجرة والكتمان
وقد وردت روايات وأحاديث تفيد أن الملائكة تضع أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وأن العالم ليستغفر له مَن في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. ويشجع الإسلام على الرحلة ثم العودة لتقديم النفع لقومه الذين رحل عنهم، كما وردت بذلك آيات وأحاديث يمكن الرجوع إليها، حيث توصي المتعلم أن يصبر وألا يضجر، كما توصي المعلم أن ييسر ولا يغضب، وأن يتحلى بما يليق بالواقف موقف النبوة في تقديم الخير للناس. ولكي تثمر الرحلة وتظهر نتائج الصبر، شجع الإسلام على التعليم، فجعل كتمان الهدي بكل صنوفه جالبًا للعنة والنقمة، ولا يُذهب أثر هذا إلا التوبة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ﴾ [البقرة: 159، 160]، ويقول
ﷺ: “مَن سُئِل عن علم ثم كتمه ألجمه الله
يوم القيامة بلجام من نار. ولأن مهمة التعلم شاقَّة كان أجرها كبيرًا، وقد بيَّن الرسول الكريم
ﷺ ذلك حين قال: “أفضل
الصدقة أن يتعلَّم المرء المسلم علمًا ثم يعلمه لأخيه المسلم”، وقال: “إن مما يلحق المؤمن من عمله علمًا علمه ونشره”. وكثرت الأحاديث الشريفة التي تدعو إلى الالتزام بما يقتضيه ما تعلَّمناه، نذكر منها ما رواه
ابن ماجه من قوله
ﷺ: “لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولتماروا به السفهاء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمَن فعل ذلك فهو في النار. على أن هذه التوجيهات التي وجَّه الإسلام البشرية إليها ترتبطُ فيه بمناهج للمعرفة، تُعنَى بطريقة التفكير كما تُعنَى بروافد المعرفة التي تمدنا بالمعلومات اللازمة لحياتنا ورسالتنا فيها.
هونكه ومكانة العلم بين الإسلام والمسيحية
إذا عقدنا مقارنة بين مكانة العلم في الإسلام ومكانته في المسيحية المحرَّفة لوجدنا أن الكنيسة في العصور الوسطى كانت معادية تمامًا للعلم؛ فالكنيسة المسيحية منذ بداية عهدها بروما قد عزلت نفسها عن الثقافتين الإغريقيَّة والرومانيَّة، وكانت الحضارة الرومانيَّة تحتضر إذ أتت عليها غارات القوط؛ على أن الكنيسة الكاثوليكيَّة الشرقيَّة حين بلغت كامل عنفوانها قد شنَّت اضطهادها على الفلاسفة والعلماء الوثنيين، وأغلقت مدرسة أثينا، وضربت بيد من حديد على الفلسفة الإغريقيَّة في الإسكندريَّة، ورأت الكنيسة أن الطريق الوحيد لتطهير الرُّوح هو طريقها إلى الله، والضلال هو البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدَّس والتفكير والتمحيص في أمور دنيويَّة. وتؤكِّد هذه الحقيقة المستشرقة الألمانيَّة زيجريد هونكه حين قارنت بين العلم في نظر الإسلام والعلم في نظر المسيحية في الغرب الأوربي خلال العصور الوسطى، فذكرت كيف أن الرسول
ﷺ أوصى كل مؤمن -رجلاً كان أو امرأة- بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبًا دينيًّا. وأوضحت هونكه كيف وصل بهم الأمر إلى اعتبار كل من ينادي بفكرة علميَّة جديدة – ككُرَوِيَّة الأرض مثلاً- أنه كافر ضال، واستدلَّت على ذلك بأقوال لاكتانتيوس معلِّم الكنيسة معلِّقًا على ما يدَّعيه البعض من أن الأرض كُرَوِيَّة، حيث قال متسائلاً مستنكرًا: “هل هذا من المعقول؟! أيُعقل أن يجنَّ الناس إلى هذا الحدِّ؛ فيدخل في عقولهم أن البُلدان والأشجار تتدلَّى من الجانب الآخر من الأرض، وأن أقدام الناس تعلو رءوسهم؟!”.
لا تقدم بلا علم
هذا هو الإسلام في حثه على العلم وطلبه وتعليمه والعمل به وبيان مكانة أهله، وبعدا لمن يرى الإسلام دين تخلف وخرافات وما ذكرت لكم في شأن العلم والحث عليه وبيان حكم الإسلام من العلوم الإنسانية قليل من كثير، وغرفة من بحر، وغيض من فيض وما أجمل قول القائل : يقولون في الإسلام ظلما بأنه يصد بنيه عن طريق التعلم فإن كان ذا حقا فكيف تقدمت أوائله في عهده المتقدم وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله فماذا على الإسلام من جهل مسلم هل العلم في الإسلام إلا فريضة وهل أمة سادت بغير تعلم إن الأمة الإسلامية لا يكمن لها أن تنهض إلا بالعلم ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم، ولا يمكن لها أن تنهي تفرقها المذموم إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها، هو الأساس لفلاحها أفرادا وجماعات، فالعلم مأمور به قبل العمل لأنه أساس له قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }(محمد:19) .