كثرت التساؤلات حول علاقة المسلم بوطنه القومي في ظل الدولة الحديثة، فقد كانت كل أرض المسلمين وطنا للمسلم، يجوز فيها بغير إذن، لأن شرط جواز الأوطان كان بطاقة التوحيد، فمن حق كل مسلم – قديما- أن يسافر إلى أي بلد في دولة الخلافة الإسلامية، فهو فرد من أفراد دولة الخلافة.

أما بعد سقوط الخلافة العثمانية، وتحول الدول العربية من أقاليم تابعة للخلافة إلى دول مستقلة ليس بينها رابط في الفقه السياسي، وتحول النظام في الدول الإسلامية إلى ما يعرف بـ” الدولة القومية”، وأضحى الناس يتمايزون بالجنسية والانتماء إلى وطن أصغر، وحكمت بلاد المسلمين أنظمة غالبها علماني، ولكنها تنص على أن الشريعة مصدر رئيسي من مصادر الحكم والتشريع، وتعلن أن دينها الرسمي الإسلام، كما هو الغالب في حال معظم الدول العربية، ومع دخول أنظمة جديدة على المجتمع المسلم في دوله الجديدة، كالليبرالية والشيوعية وغيرهما في بدايات القرن العشرين وما بعده، تم طرح التساؤل: ما علاقة المسلمين الذين يعيشون في بلاد يدين غالبها بالإسلام، وإن نحوا الإسلام عن الحكم – من تلك الدولة، هل الولاء للدولة؟ أم الولاء للدين؟

وهذا سؤال خطأ، لأن هذا يعني أن هناك انفصالا وانفصاما بين الدين والدولة في بلاد المسلمين، خاصة أن من يقول هذا السؤال يقدم الليبرالية والعلمانية كبديل عن النظام الإسلامي الذي يقبل الجميع تحت سقف وطن واحد بعيدا عن معتقداتهم.

ومثل هذا الكلام فيه اتهام – تصريحا وتلميحا- للإسلام أنه لا يقبل التعددية الدينية، وهو – في ذات الوقت- خطأ تاريخي، لأنه يزعم أن الليبرالية  التي هي حديثة المنشأ أول من نادى بالتعددية الدينية في الوطن الواحد.

لم نجد في الفكر الإنساني من ينصف الوطن كما أنصفه الإسلام، وإن التضحية بالنفس لأجل الحفاظ على الوطن ومن فيها لا نجدها إلا في تشريع الإسلام

والناظر إلى تاريخ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة على يد النبي صلى الله عليه وسلم يدرك تماما أنها أول دولة تقوم على التعددية والاثنية، فقد قامت دولة الإسلام في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم على تعدد الأديان في المدينة، فقد تجاور فيها الإسلام مع اليهودية والنصرانية ، فجمعت الأديان السماوية، كما وجدت فيها بعض الأديان الوضعية كعبادة الأوثان والأصنام وغيرها، ولم يكن ذلك مانعا من أن يستظلوا بظل دولة واحدة، هي دولة الإسلام.

وقد وضع الرسول – صلى الله عليه وسلم- كما يقول علماء التاريخ والحضارة أول قانون مدني في البشرية، وهو ما عرف بـ ” وثيقة المدينة“. وبعد أن كانت الدول لا تكون إلا متحدة العرق والدين، كفارس والروم وغيرهما، جاءت دولة الإسلام لتجمع تحت ظلالها المواطنين مختلفي العقائد والأديان بلا حرج، وأرسى الإسلام حرية الاعتقاد والعبادة في دستوره الأول، وهو القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وجعل لغير المسلم الاختيار أن يكون مسلما أو غير مسلم، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

ولكن السؤال الأخطر في فقه المواطنة في ظل الدولة القومية هو: إذا شرعت الدولة قوانين تصادم صحيح الدين، هل ينحاز للدين أم ينحاز للدولة؟ وإذا انحاز للدين، فيوصف بأنه عميل لدولة أخرى، أو أنه ليس مواطنا حقيقيا.

وهذا أمر يجعل الدولة القومية صنما يعبد من دون الله تعالى، فالمطلوب من كل مسلم هو الولاء المطلق للسلطة والدولة ولو خالفت صريح القرآن والسنة، ولو شرعت ما يصادم المقطوع به من الدين بالضرورة، وإلا اتهم في وطنيته.

فالواجب على المسلم في ظل المواطنة المعاصرة إن ارتأت دولته أن تدخل في حرب ظالمة ضد دولة ضعيفة، فلابد أن ينحاز لقرارات تلك السلطة الغاشمة، وأن الدولة لو رأت أن التعامل بالربا هو جزء من القانون فعليه أن يسلم لها بذلك، ولو أنها لم تر الزنى جريمة، وأن تستبدل الحدود بالتعازير، فوجب عليه أن يصدق بما يخالف قول الله ورسوله حتى يثبت ولاءه لوطنه.

ومن هنا، كان كثير من المفكرين غير الإسلاميين يحاول أن يوجد فجوة بين الدين والدولة المعاصرة، وأنه على المسلم الملتزم بتعاليم دينه أن يختار بين الدولة وبين الدين!!!

المسلم مواطن بفطرته، يحب أرضه ويعشقها، ويدافع عنها بكل ما أوتى حتى إنه ليقدم روحه فداء لوطنه

ولكن الناظر إلى شريعة الإسلام وفكره يجد أن هذا الانفصام النكد بين الدين والوطن غير موجود في عقيدة المسلم، فالمسلم مواطن بفطرته، يحب أرضه ويعشقها، ويدافع عنها بكل ما أوتى حتى إنه ليقدم روحه فداء لوطنه، لكنه ليس عبدا لأنظمة جائرة يخير فيها بين قبولها وبين تعاليم دينه، وإلا كان خائنا!!

إننا لم نجد في الفكر الإنساني من ينصف الوطن كما أنصفه الإسلام، وإن التضحية بالنفس لأجل الحفاظ على الوطن ومن فيها لا نجدها إلا في تشريع الإسلام، بل إن سبب تشريع جهاد القتال هو الدفاع عن النفس والعرض والأرض، وهي الترجمة الصحيحة لكلمة ( وطن)، كما قال تعالى في أول آية نزلت في شأن جهاد القتال، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 39، 40]، بل ينفث القرآن إلى النفس البشرية التي تقرر الدفاع عن الأرض التي أخرجوا منها بغير حق، فيقول على لسان بني إسرائيل: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } [البقرة: 246]

ولعلو شأن الوطن في الإسلام، جاء التشريع ليجعل التهجير والنفي من الأوطان عقوبة

بل يقرر القرآن الكريم طبيعة النفس البشرية في حب الأوطان، وتشبث تلك النفس البشرية بأرضها والولاء والانتماء لها، فيقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } [النساء: 66].

غير أن حب الأوطان لا تلازم بينه وبين ترك الوطن، نعم، الصورة المثالية هو بقاء الإنسان في وطنه، وذلك حين يجد الإنسان في وطنه حفظا لدينه وحفظا لنفسه وحفظا لماله، فساعتها تكون السعادة الحقيقية، وهذا ما تقوم به الأنظمة التي ترعى ربها ، وتحب شعوبها، غير أن البعض يتصور أن حب الوطن هو البقاء فيه ولو حتى الموت، أو لو حتى فتن في دينه، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 97، 98]

ولما كان الوطن هو السكن، كانت أحكام الشريعة جارية في حق الإنسان على العزيمة لا الرخصة، فلا يحل للإنسان أن يقصر الصلاة وهو مقيم، ولا أن يؤجل الصيام وهو في وطنه، إلا لمرض ونحوه، وذلك راجع إلى أن النفس البشرية تجد الاستقرار والطمأنينة وراحة البال في الوطن الأم، ولما كان البعد عن الوطن مشقة، تعلق به فقه الرخصة والاستثناء.

وقد جعل الفقهاء الوطن ثلاثة أقسام، لكل قسم منها أحكام شرعية خاصة، وهذه الأقسام هي:

أولا-  الوطن الأصلي :  وهو الوطن الذي يولد فيه الإنسان، أو يتزوج فيه، أو يتخذه سكنا ومستقرا له، فهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان لا يرحل عنه إلا لحاجة كزيارة أو تجارة ونحوهما. وألحق بعض الفقهاء البلد الذي للإنسان فيه تجارة.

ثانيا – وطن الإقامة : هو البلد الذي خرج الإنسان إليه مسافرا يقيم به فوق المدة التي يأخذ فيها حكم المسافر، ويسمى ” الوطن المستعار”، ولهذا يفرق في بعض الدول بين المواطن والمقيم، فيقصدون بالمواطن صاحب الوطن الأصلي والمقيم، من جاء من وطنه مسافرا ليستوطن وطنا آخر.

والشخص فيها لا تنطبق عليه أحكام المسافر، ولا يسمى في الشريعة مسافرا، وإنما يسمى في عرف الناس، فيقال: إنه مسافر في دول الخليج، أو مسافر في أوربا ونحو ذلك.

ويشترط فيه أن يكون مبنيا بما جرت عليه عادة الناس من البناء الذي يسكن فيه الناس.

ويشترط في وطن الإقامة:  نية الإقامة ، ومدة الإقامة المعتبرة ، واتخاذ مكان الإقامة ، وصلاحية المكان للإقامة ، وألا يكون المكان وطنا أصليا للمقيم .

قامت دولة الإسلام في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم على تعدد الأديان في المدينة

ثالثا – وطن السكنى : هو الوطن الذي يمكث فيه الإنسان مدة أقل من مدة المسافر، ويسمى مسافرا في الشرع والعرف، ويأخذ أحكام المسافر.

ويشترط فيه عدم نية الإقامة فيه ، وعدم الإقامة فيه فعلا المدة القاطعة للسفر  وأن لا يكون وطنا أصليا للمقيم فيه .

تغير الوطن

إذا كان الإنسان يعيش في وطن، ثم انتقل بأهله إلى وطن آخر، وترك السكنى في الوطن الأول، لم يعد الوطن الأول وطنا أصليا، ولكن بشرط حين يسافر فيه لا يمكث أكثر من مدة السفر، ما بين ثلاثة أو أربعة أيام على ما ذهب إليه جمهور العلماء، فإن ولد الإنسان في وطن، ثم انتقل بأهله إلى وطن آخر، وسافر إلى الوطن الأول مدة ثلاثة أو أربعة أيام أو غيرها مما حدده العلماء فله حكم المسافر.

وقد يكون للإنسان أكثر من وطن، فإن كان له زوجة في وطن، وزوجة أخرى في وطن، وكان يتنقل بين الوطنين، كان صاحب وطنين ولا ينتقض الوطن الأول.