بما أن الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، والقرآن هو الركيزة الأساس في هذه الصالحية؛ فإن الحاجة إلى فهمه وإنزال رؤيته وقيمه على الواقع تختلف باختلاف العصور والعقول والأفهام والمستجدات التى ينبغي أن يلبيها انطلاقاً من هذه الصلاحية؛ ومن ثم فإن ما يحتاجه عصر ما من القرآن يختلف إلى عصر آخر، ومنهجية قراءته وتفسيره تختلف أيضاً من وقت إلى آخر، وهذا هو المنطلق الأساس الذى قام عليه رواد هذا المدخل، وهو الحاجة إلى تقديم تفسير جديد وعصري لآيات القرآن؛ وما يتطلبه ذلك من ضرورة تجديد منهجية التفسير، وإن رأوا في المناهج القديمة ما يمكن الاستفادة منه.

         وفي مدخل تجديد منهجية التفسير يمكن ملاحظة ثلاثة مناح أساسية، المنحى الأول: منهجية التفسير الموضوعي، المنحى الثاني، منهجية التفسير العلمي، المنحى الثالث: منهجية التفسير الأدبي والبياني.

المنحى الأول: منهجية التفسير الموضوعي

         تتعدد التعريفات التى تتعلق بالتفسير الموضوعي حسب لون ذلك التعريف وهدفه وموضوعه، وحسب النظر الموضوعي للمفسر صوب القرآن مثل “النظر الفقهي، واللغوي، قضايا الأحكام، وعلوم القرآن (المحكم والمتشابه – الناسخ والمنسوخ) أو المسائل الأخلاقية والتربوية والاقتصادية…” ([1]).ودون الخوص في جدل هذه التعريفات نعرض لعدة جوانب تمثل رؤية أصحاب هذا الاتجاه نحو أهمية التفسير الموضوعي ومنطلقاته وبنيته ونماذجه.

         يشير مصطفى مسلم إلى أهمية التفسير الموضوعي في العناصر التالية:

1 – إن تجدد حاجات المجتمعات وبروز أفكار جديدة على الساحة الإنسانية وانفتاح ميادين للنظريات العلمية الحديثة لا يمكن تغطيتها ورؤية الحلول الصحيحة لها إلا باللجوء إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

2 – تهيئة المناخ العلمي للموضوع المدروس بعمق وشمولية يثرى المعلومات حوله وتبلور قضاياه وتبرز معالمه.

3 – عن طريق التفسير الموضوعي يستطيع الباحث أن يبرز جوانب جديدة من وجوه وإعجاز القرآن الكريم الذى لا تنقضي عجائبه.

4 – تأهيل الدراسات القرآنية وتصحيح مسارها.([2])

كما يلحظ في أوساط المفسرين الذين بذلوا عناية بالتفسير الموضوعي، وجود مرتكزين أساسيين يقوم عليهما التفسير الموضوعي: ([3])

 – الفريق الأول كان منذ البداية في صدد البحث عن مواضيع ومحاور يعرضها القرآن، ثم يأتي دور المفسر الذى عليه أن يكتشف مجموعة الآيات ذات الصلة بذلك الموضوع، أو المحور سواء كانت مبثوثة في سورة واحدة أم موزعة على القرآن برمته، ثم يخضعها للدراسة.

– أما الفريق الثاني، من أصحاب الاتجاه الموضوعي في التفسير، فيرى أن باستطاعة المفسر أن ينتخب موضوعاً محورياً من المسائل الموجودة خارج النص القرآني تمليه المتطلبات الفكرية، والاجتماعية، ودراسة معارف القرآن ومقاصده إزاء ذلك الموضوع في إطار آيات الوحي؛ وذلك لأن البحث الموضوعي عبارة عن عرض مسألة من المسائل العقدية أو الاجتماعية، أو تلك التى لها صلة بالوجود مما تزخر به الحياة.

منطلقات التفسير الموضوعي ومبرراته([4])

– أنه يقوم على دراسات تستقصى وتستوعب فهم آيات القرآن الواردة في الموضوع الواحد، لتبين التصور القرآني الشمولي لتلك الموضوعات.

– أن موضوعات القرآن لم تقتصر على الجوانب التى برع فيها علماء التشريع والأحكام الفقهية واللغة والبلاغة… بل تتضمن أساساً في علوم السياسة والاقتصاد والنفس والتربية والإعلام… وبهذا يتطلب التفسير الموضوعي مشاركة شريحة واسعة من علماء الأمة على اختلاف تخصصاتهم في فهم القرآن والكشف عن جوانب هدايته وإعجازه.

– أن معرفة التفسير الموضوعي تؤدي إلى معرفة الحقائق القرآنية في مسائل الكون والمجتمع والحياة والإنسان، مما يجعل إمكانية استنباط نظريات متكاملة فيها كبيرة.

– أن التفسير الموضوعي يأخذ بعين الرعاية والاهتمام قضايا الواقع ومعضلاته ويعمل على حلها.

وإجمالاً فإن الفكرة الأساسية التى يدور حولها التفسير الموضوعي تتمحور حول نظرية ترابط المعاني والمفاهيم والمضامين القرآنية بصورة تبدو متكاملة في موضوعات متعددة، وهذه الفكرة أنتجت ثلاث نظريات في التفسير الموضوعي: ([5])

1 – نظرية الارتباط العضوي لمفاهيم القرآن.

2 – نظرية الوحدة الموضوعية بكل سورة.

3- ترابط البيانات القرآنية المتفرقة ووحدتها حيال الموضوع الواحد .

ويعد محمد عبده (1849-1905) من أوائل المفكرين الذين دعوا إلى التحرر من أسر قولبة فهم “النص القرآني” حسب تفاسير الأقدمين ومنهجهم في النظر إلى “القرآن” لاختلاف العصر وتغير الحاجات والمستجدات والأزمات التى تعاني منها الأمة وأبرزها “الجمود على الموجود” وحدد معنى التفسير بأنه “فهم للكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا والآخرة فإن هذا هو المقصد الأعلى منه”([6]). وأشار إلى أن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه وإنما يسألنا عن كتابه الذى أنزله لإرشادنا وهدايتنا”([7]).

وقد رجح محمد عبده في إشارته التفسير الموضوعي للقرآن “فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التى كانت مستعملة في عصر نزوله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه”.([8])

ويرى محمد عبده أن القرآن يحتوى خمسة محاور رئيسة هي:التوحيد,والثواب والعقاب, والعبادة وبيان سبل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة والقصص والأخبار للعبرة والذكرى.([9])

كما يقوم منهج محمد عبده في التفسير الموضوعي على: ([10])

– اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة لا يصح الإيمان ببعضه وترك بعض آخر منه، كما أن فهم بعضه متوقف على فهم جميعه.

– اعتبار السورة كلها أساساً في فهم آياتها، واعتبار الموضوع فيها أساساً في فهم جميع النصوص التى وردت فيه.

– إخضاع حوادث الحياة القائمة في وقته لنصوص القرآن الكريم: إما بالتوسع في معنى النص، أو بحمل الشبيه على الشبيه.

وواصل هذا المنحنى محمد عبد الله دراز (1894-1958) في “النبأ العظيم” حيث أكد على “خط سير السورة القرآنية إلى غايتها ووحدتها المعنوية” وأوضح “أن السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه،  فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضوعية بين جزء منه – وهي تلك الصلات المبثوثة في مثانى الآيات ومطالعها ومقاطعها – إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معواناً له على السير في تلك التفاصيل عن بينة”.([11])

وفي تمثيل نماذجي لهذا الطرح النظري للتعامل مع النص القرآني، والذى يؤكد على الرؤية الكلية للسورة أو “النظام المجموعي” يستعرض تطبيقاً لسورة البقرة أطلق عليه “نظام عقد المعاني في سورة البقرة” والتى صنفها حسب منهجه الموضوعي إلى ستة أقسام:مقدمة وخاتمة وأربعة مقاصد: “المقدمة, في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حداً من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض. المقصد الأول,في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام. المقصد الثاني: في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق. المقصد الثالث: في عرض شرائح هذا الدين تفصيلاً. المقصد الرابع, ذكر الوازع والنازع الدينى الذى يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها.الخاتمة, في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد، وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم”.([12])

واعتمد هذا النهج الموضوعي المقاصدي للقرآن الكريم وسوره محمد الظاهر بن عاشور (1878-1972) في تفسيره “التحرير والتنوير من التفسير” حيث تتبع مقاصد سور القرآن وأغراضها سورة سورة، وأشار في مقدمته الرابعة “فيما يحق أن يكون غرض المفسر” إلى المقاصد الكلية في القرآن ورآها على ثلاثة أقسام: صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية..

إن القرآن أنزله الله تعالى كتاباً لصلاح أمر الناس كافة رحمه لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] {النحل:89} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل من الصلاح الفردي… ومن شئ زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.

وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعى المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.([13])     

أما  حسن البنا (1906-1949) فقد نحى نهجين في التفسير الموضوعي، الأول في كتابه “نظرات في القرآن([14]) والذى أهتم فيه ببيان الموضوعات الكبرى في القرآن مثل: الإنسان في القرآن، الكون في القرآن،الإلوهية في القرآن، المرأة في القرآن، الفكرة الاقتصادية في كتاب الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، العبادات، الأخلاق، الرسالة العامة في كتاب الله.

وفي كتابه الثاني “مقدمة في التفسير([15]) والذى قام فيه بتفسير سورة الفاتحة وأوائل سورة البقرة، فاهتم بإدراك البعد المقاصدي للسورة وظهر ذلك في تفسيره لسورة البقرة، يذكر البنا قوله “من الخير أن نضع بين يدي الناظرين في كتاب الله تبارك وتعالى هذه الصورة المجملة لمقاصد السورة المباركة بأرقام الآيات حتى تكون مفتاحاً للتدبر والتفكر حين التلاوة، ومعواناً على الدرس والبحث…” ثم أخذ يقسم آيات السورة إلى أقسام ويعنون لكل قسم بموضوع وذلك حتى نهاية السورة، ثم تناول بعد ذلك كل قسم بالشرح والتفسير مبيناً مقصد كل جزء منها وارتباطه بالآخر وارتباطهما بالسورة كلها.

ويطرح محمد باقر الصدر ( 1953-1980) رؤيته في منهجية التفسير الموضوعي للقرآن، ولكنه أولاً ينتقد التفسير التجزيئي “الذى يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل الآيات في المصحف الشريف”.([16]) ويرى أنه لا يعد كافياً للحالة الإسلامية المعاصرة، والتى انتشرت فيها النظريات المتعددة وأصبح المسلم مطالباً بتحديد موقفه منها.


([1]) انظر حول تعدد تعريفات التفسير الموضوعي: مسلم, مصطفى. مباحث في التفسير الموضوعي. دمشق: دار القلم ,1989,ص15-17.

([2]) المرجع السابق، ص30 – 32.

([3])سجادي, السيد إبراهيم . “آفاق التفسير الموضوعي في القرن الهجري الأخير”، في : مجموعة من الباحثين: دراسات في تفسير النص القرآني. بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2007، ص169 – 170.

([4])الدغامين, زياد خليل: “تفسير القرآن وإشكالية المفهوم المنهج”.مرجع سابق, ص 35 .

([5])سجادي, السيد إبراهيم. “آفاق التفسير الموضوعي في القرن الهجري الأخير”. مرجع سابق, ص176.

([6]) عبده, محمد. تفسير سورة الفاتحة وجزء عم.سلسلة الذخائر, العدد رقم  62 , القاهرة, الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007، ص8.

([7]) المرجع السابق، ص18.

([8]) المرجع السابق : ص13.

([9]) المرجع السابق : ص26.

([10]) البهي,محمد.  الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي. القاهرة: مكتبة وهبة ، ط13، 1997، ص137.

([11])دراز, محمد عبد الله. النبأ العظيم..نظرات جديدة في القرآن. الدوحة: دار الثقافة، 1985، ص158.

([12]) المرجع السابق: ص163.

([13])ابن عاشور, محمد الطاهر. تفسير التحرير والتنوير. ج1، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984.30ج ص.30.

([14]) البنا, حسن. نظرات في القرآن، سجلها وأعدها للنشر. أحمد عيسى عاشور. القاهرة: مكتبة  الاعتصام، د.ت.

([15])البنا, حسن. مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة. القاهرة: دار الشهاب، 1979 .

([16]) الصدر,محمد باقر. المدرسة القرآنية . قم : مؤسسة الهدى الدولية للنشر والتوزيع، 1981 ، ص23 .