المبدأ الثاني – نوع التعاقد بين السلطة والشعب

وتبعا للمبدأ الأول فإن نظرية العقد الاجتماعي عند روسو تقرر أن نوع التعاقد بين المجتمع والسيادة من قبيل عقد التنازل من الإرادة الفردية إلى الإرادة العامة التي يمثلها صاحب السيادة، وليست عقدا بين الأفراد، أو عقدا بين المجتمع والسلطة، فإن السيادة عند روسو ليست سوى ممارسة الإرادة العامة، لأن كل واحد يتحد مع الكل فالعقد هو بين اﻟﻤﺠموعة بحيث يضع كل واحد شخصه وقدرته في الشراكة تحت سلطات الإرادة العامة، وسيكون كل شريك متحدًا مع الكل ولا يتحد مع أي شخص بشكل خاص، ويخسر الفرد حريته اللامحدودية لمصلحة القانون العام.

هذا بخلاف أصول عقد الإمامة عند الجويني، فإنه يرجح شرعية الإمامة بعقد البيعة بين المجتمع – وهم أهل الحل والعقد – والصالح للإمامة، ويكون باختيار منهم في حرية كاملة، واستند إلى صفقة بيعة الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: والبيعة تواتر النقل فيها وظهر، بما يغني عن البحث، وأن الإجماع فيها أقوى من الاحتجاج المتكلف. (الغياثي: 240).

وحيال ذلك فإن الجويني يؤكد بخلاف روسو أن السلطة الشرعية تنعقد باختيار الشعب من ينيبهم في شؤون الأمة العامة والخاصة، وبإرادة منه مطلقة، ولو أجبر الشعب على إرادته فإنه ينقاد للملك المتسلط طوعا وكرها، لكن هذا لا يسلب من الشعب حريته وأحقيته في السلطة. (الغياثي: 241)، وأما ما رسمه روسو ويطلق عليه العقد الاجتماعي فإنه يجبر الشعب على التنازل من إرادته لإرضاء القانون الوضعي، ولم يتفطن لقابلية استيلاء السلطة الحاكمة على إرادات وحريات الشعب فيتعسف في استعمال القانون، كيف لا، والنفوس جبلت على محبة الاستيلاء! وحين يطلب روسو تنازل الناس عن حرياتهم الخاصة بدعوى أنهم سيربحون مقابله الحرية الاجتماعية فإنه يناقض القانون الطبيعي أو الحق الطبيعي، ويطل عليه بالهدم، ويقدم القانون الوضعي -وإن كان عن عقد – على القانون الطبيعي.

المبدأ الثالث – حماية الحقوق الفردية:

السلطة الشرعية تنعقد باختيار الشعب من ينيبهم في شؤون الأمة العامة والخاصة، وبإرادة منه مطلقة

واخترت هذا البند ليكون المبدأ الثالث لأنه يلخص محتوى هذا المقال من المقارانات، وتمثل الحقوق الفردية  القانون الطبيعي أو الحق الطبيعي الذي يتطبع الإنسان بأصله وطلبه، وكان لا يجوز التنازل عنه بحال، ويتفق جميع الشعوب على ضرورته، ويشمل حق الحرية – والمساواة – والملكية، لذلك كان أخصب مثال لتقييم النظريتين بين روسو والجويني.

نجد روسو يقرر للدولة حق التدخل في ممتلكات المواطن العينية فتتحكم فيها، وتقيد تصرفه فيما هو خارج عن حاجاته الضرورية، وأن ما فضل من ذلك كان من الحيازة العمومية لأنها الأصل، وهنا أنقل كلامه: “إن الدولة فيما يخص أعضاءها، هي السيد على جميع ممتلكاتهم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي هو بالنسبة إلى الدولة بمثابة القاعدة لجميع الحقوق، ولكن الدولة ليست كذلك بالنظر إلى القوى الأخرى إلا بما لها من حق المتحوز الأول الذي جاءها من الأشخاص. أما حق المتحوز الأول – وهو من وجد الحق تحت حيازته – .. فإنه لا يصير حقا حقيقيا إلا بعد إرساء حق الملكية. لكل إنسان بالطبع في كل ما هو ضروري، لكن الإجراء الوضعي الذي يجعل منه مالكا لبعض الخيرات يقصيه عن كل الباقي. فإذا ما حددت حصته وجب عليه أن يتقيد بها، ولم يعد من حق البتة ينافي الجماعة.” (في العقد الاجتماعي.. ترجمة عبد العزيز لبيب: 101).

أما الجويني رحمه الله فإنه يدافع عن حقوق الأفراد في المجتمع، ويحرص على منع كل محاولة لمصادرة حقوقهم، ويدعو إلى ضرورة الدفاع عن الممتلكات الخاصة وحمايتها من أيدي المتلصصين وقطاع الطرق، بل ناقض مذاهب ترى بجواز أخذ السلطة أموال الناس إذا ظهرت له حاجة، حتى وصفه الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله برجل المجتمع! فقال في حقه: كأن الجويني رأى بعيني بصيرته ما سيبتدعه حكام عصرنا من شعارات ونداءات يسوغون بها عدوانهم على حريات الشعب وأمنه!

حقيقة العقد الاجتماعي بمعنى إمتاع الشعب بحقوقه الطبيعية: الحرية، والمساواة، والملكية تتجذر بحق في أصول البيعة عند الجويني

كما أبرز الجويني رحمه الله  ضرورة استشارة الإمام لرعيته، ليصحح خطواته، ويحمل الناس على هواه ورأيه الخاص، لا سيما إذا تعرى عن المصلحة، وهذا ما يمهد للاستبداد، قال: إن صاحب الاستبداد لا يأمن الحيد عن سنن السداد..وسر الإمامة استتباع الآراء وجمعها على رأي صائب.. (الغياثي: 261-262)، وهكذا إرادة الشعب لها اعتبار دائما بالنسبة لعقد البيعة سواء في أصل انعقاده أو أثنائه أو في انتهائه. بل يرى الجويني مصادرة إرادة الشعب في السيادة الكبرى نوعا من الاستيلاء، وما وقع من هذا القبيل في دابر الأزمان بعد انقراض حكم الخلافة الراشدة اعتبره ملكا عضوضا. (الغياثي: 298).

أما حق الناس في الملكية والتصرف فيها بحرية فإن الجويني يشدد على عدم المساس به بحال من الأحوال، ولو اضطر صاحب السلطة إلى طلب شيء من أموال الناس لحاجة  كإمداد العسكر، أو دفع نازلة عن المسلمين والإسلام، فإنه يطلب من أموال الناس الخاصة بإذن منهم دون اقتهار أو إجبار، يقول: الأملاك محترمة كحرمة ملاكها.. والملاك مختصون بأملاكهم، لا يزاحم أحد مالكا في ملكه من غير حق مستحق.. فالأمر الذي لا شك فيه تحريم التسالب والتغالب، ومد الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق. (الغياثي: 540 -541).

أخيرا يمكن القول إن نظرية العقد الاجتماعي عند روسو حاولت إبراز حق الشعوب في تقرير مصيرها وتلبية حقوقها الطبيعية، وكانت صرخة في وجه السيطرة الكنسية التي كانت تصادر حقوق الناس في الحياة بدعوى الحق الإلهي وتسيطر على حياة البشر وتتحكم فيها حسب أهواء الأباطرة، ورغبات الملوك. ولكن حيال تحقيق هذا المسعى وضعت النظرية تصورا عن عقد التنازل، كان تكأة للسيطرة الطبقية في النظام الشيوعي والاشتراكي. في المقابل، نرى أن حقيقة العقد الاجتماعي بمعنى إمتاع الشعب بحقوقه الطبيعية: الحرية – المساواة – الملكية تتجذر بحق في أصول البيعة عند الجويني رحمه الله، وهو أبرز نوع العقد الذي يتم إبرامه بين الشعب والسلطة، وعقد البيعة عنده لا يصادر حقوق الناس الطبيعية، كما لا يجيز اقتطاع خيرات الناس لمصلحة العام إلا بإذن من الملاك، والحاكم في نطريته ليس له تفويض إلهي ولا هو معصوم من اقتراف الخطأ، وهو في الشرع منفذ لحكم الله، نائب عن الشعب في زعامة الدولة. فمن أحق إذاً بنظرية العقد الاجتماعي، الجويني أم جان جاك روسو؟!