ثبت في الجامع الصحيح للإمام البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها قبل وفاته سمع رجلا يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت! فغضب عمر لذلك، وتوعد أن يخطب الناس عشية ذلك اليوم، لكن عبد الرحمن بن عوف راجعه في ذلك بقوله: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغوغاءهم! فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهِل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.

أصغى عمر لنصيحة عبد الرحمن بن عوف، فأمهل تعقيبه على الحادثة لوقت وصولهم المدينة المنورة – على صاحبها الصلاة والسلام – .

وفي المدينة قدم عمر بن الخطاب مقولته الشهيرة، فقال: إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك! ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا ! ثم حكى قصة بيعة أبي بكر  رضي الله عنه بكمالها وتمامها.

واختلف المقصود بقوله “كانت بيعة أبي بكر فلتة“، وإقرار عمر رضي الله عنه ذلك، إلى معان أبرزها أن الفلتة أريد بها الفجأة، إشارة إلى الأمر الذي نفذ بعجالة من غير روية ودراسة، وأريد هنا أن بيعة أبي بكر وقعت بسرعة، وإنما أسرعوا فيها حتى لا تنشب في تأخيرها أي فتنة متوقعة.

وجاء في تأويل آخر أن الفلتة هي الخَلسة، أي أن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الأنفس، ولذلك كثر فيها التشاجر، فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي واختلاسا. النهاية لابن الأثير 3/467

وهذا ما اختاره الكرابيسي صاحب الشافعي، وحمل المراد أن أبا بكر ومن معه تفلتوا في ذهابهم إلى الأنصار فبايعوا أبا بكر بحضرتهم، وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه من بيعته، فقال منا أمير ومنكم أمير، فالمراد بالفلتة ما وقع من مخالفة الأنصار وما أرادوه من مبايعة سعد بن عبادة. فتح الباري 12/150

خصوصية أبي بكر رضي الله عنه

وأياً ما كان تأويله فإن القصة تقرر وقوع بيعة أبي بكر بعجالة أو سرعة دون أخذ رأي الجميع أو على الأقل اعتبار اتفاق الحاضرين، ولكن استدرك عمر بن الخطاب على المغرض الذي يريد أن يتجرأ على الأمر ذاته دون أخذ مشورة الناس جميعا بأمرين:

أولا – أمان الله الذي لحق الأمة، عصمت الأمة من خطر المسارعة دون أخذ مشورة، ومن الفتن التي تجر أذيالها نتيجة ذلك، وهذا ما أشار إليه عمر بقوله (.. ولكن الله وقى شرها)، أي شر العجالة، ولا يفهم منه أن بيعة أبي بكر انطوى على مخالفة وشر، ويوضح ذلك التعليل التالي

ثانيا – مزية السبق في أبي بكر، أخذت الأمة الوهلة من وفاة رسول الله، فارتد بعض ضعاف القلوب، واضطرب الصحابة في تفسير الحالة الجديدة، فكانت بيعة الصديق عاصمة تدارك الله بها الإسلام والأنام، وهذا يمتثل في خطاب عمر رضي الله عنه حين قال: “وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر”، وهو يشير بهذه المقولة إلى أن فضائل أبي بكر في الإسلام، وسبقه فيه، ورفقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدمه على الصحابة جميعا بإقرار منهم، كانت خاصية لا تتوفر لأحد بعده، فيدعي لنفسه المبايعة بالحالة التي وقعت لأبي بكر.

يقول الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولا في الملإ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى وليس غيره في ذلك مثله.

ويستفاد من هذه المزية أن عمر بن الخطاب اعتمد على ما استقر لدي الصحابة رضوان الله عليهم من تقدم أبي بكر في السبق والفضل، فأمر أبا بكر أن يمد يده ليبايعه، فوضع يده عليه ثم تتابع الناس بعده، وهذا يقوي استناد خلافة الصديق على إجماع الصحابة، كما أقر ذلك الأئمة من بعدهم خلفا وسلفا، ونص على هذا الإجماع الإمام البغدادي وأبي الحسن الأشعري والجويني وغيرهم.

وأمرهم شورى بينهم

وتنتهي خطبة عمر رضي الله عنه إلى وضع قاعدة عامة تعصم العباد والبلاد من الفوضى والظلم والاستبداد، وهو المقصد الأهم من المقال، حين قال: من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا! يؤصل هنا لمبدأ الشورى في البيعة، والشورى هنا مشورة العامة أو من ينيب عنهم من أهل الحل والعقد في اختيار الإمام، ويتعين من كلام عمر بن الخطاب أن الفلتة التي تمت في بيعة الصديق في سقيفة بني ساعدة أنها كانت بمشورة عدد يسير من أهل الرأي والوجاهة وغياب ملأ كبير منهم، ثم الدعوة بعد ذلك إلى البيعة العامة، وكان عمر يرفض أن يقع مثل هذه الفلتة في أي بيعة بعد ذلك.

كما أن عمر يرد على دعوى اختيار أي خليفة بطريق خلسة دون مشاورة الناس، ويمنعه، فقال: فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا!، ولفظة تغرة يعني تغريرا لأن في بيعتهما تغريرًا بأنفسهما للقتل وتعرضًا له فنهاهما عنه، وأمر ألا يؤمَّر واحد منهم لئلا يطمع فى ذلك، فيفعل هذا الفعل!

ويحتمل أن يقال إن الذي يتولى دون مشورة يعرض نفسه أو صاحبه للقتل، لأن استيلاءه هذا على الإمامة يفتح باب الفتن، وتزهق منها الأرواح البريئة، والتاريخ خير شاهد! فوقع هذا الكلام من عمر رضي الله عنه موضع التحذير من الإقدام على هذا الأمر على خلفية ما حدث لأبي بكر الصديق.

وتتضمن المشاورة بالتبع رضا الناس بإمامهم واختيارهم إياه بحرية ودون إجبار، وأن الخلافة حق الأمة في أصلها لا ينتصب لها أحد بوصية أو نص إلا برضا على الأقل أهل الحل والعقد، ومن هنا كان رأي الفقهاء أن خلافة أبي بكر كانت بإجماع الصحابة، وكذا أجازوا الاستيلاء على الخلافة بالتغلب والقسر من باب الاضطرار.