بعد تحليل مفهوم الجماعات وتركيبها الفكري والعوامل التي تؤثر فيها وكذلك تعقلها وتخيلها يخصص غوستاف لوبون فصلا آخر لكيفية استعمال هذه العوامل ومن الذي يمكنه استعمالها استعمالا مفيدا، أي ما هي الصفات المفترضة لقواد الجماعات وكيف يستطيعون إقناع تلك الجماهير الغفيرة وسوقها نحو هدفهم المنشود؟.

يقرر لوبون منذ البداية أن القائد هو ذلك الذي ينبثق من داخل نضالات الجماعة، وليس القائد ذلك الذي يأتي من الخارج، ذلك لكي يكون منفعلا ومقتنعا وعارفا بالفكرة التي يدعو إليها واعيا بتطوارتها وتشابكاتها التاريخية والراهنة، يقول:

“.. والعادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودا: أعني أنه كان مسحورا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه إلا ما كان منها، وأن كل ما خالفها وهم وباطل، كما جرى للزعيم (روبسبير) أسكرته أفكار (روسو) فقام يدعو إليها، واستعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها” ص68.

بالنسبة للوبون هناك نوعان من القادة: القادة العاديون والقادة الحقيقيون.

أ ـ القادة العاديون: وأكثر من يتحدث عنهم التاريخ ـ بالنسبة له ـ قادة عاديون قوالون سفسطائيون يتملقون الجمهور ويسعون نحو منافعهم الذاتية ويفنعون السفلة من الناس، وهؤلاء قد يحصلون بعض النفوذ ولكنه سريع الزوال، فليس لبصماتهم تلك القوة التي تنقش ذكراهم في جدار السنين.

ب ـ القادة الحقيقيون: وهم أصحاب الاعتقاد الصادق والإيمان الذي لا يتزعزع وهم الذين تمكنوا من نفوس الجماعات وحركوها وحركوا معها التاريخ، إنهم منقوشون في جدار الزمن لا تبليهم الأيام، ويصفهم لوبون فيقول:”.. إنهم لم يتمكنوا من خلب العقول واجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه. وبذلك توصلوا إلى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس، وهي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله” ص69.

الفرق بين النوعين هو صدق الاعتقاد بالفكرة، الاعتقاد الذي يدفع نحو التضحية ويستهين بالاستهزاء والتشهير، وهذا من أسرار النفوس، فإنها لا تنصاع بصدق إلا لمن يحمل هذا الإيمان الصادق، وهي فكرة قديمة، فما يزال علماء السلوك في التاريخ الإسلامي يؤكدون على هذا الترابط غير المرئي بين النفوس فيقولونLإن ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان).

يستمد القادة نفوذهم أيضا من نفسية القهر السائدة لدى أفراد الجماعات، إنهم يشعرون بحاجتهم لبعض الاستبداد، ذلك بأنهم يرون أن غياب القائد يؤدي إلى تفككهم وانحلال عصبتهم، وبالتالي فهم يرضخون لاستبداده وجبروته لأنهم لا يريدون العودة إلى نفوسهم التي قرروا التخلص منها بالانصهار في الجماعة على حد تعبير إيريك هوفر في كتابه (المؤمن الصادق).

إضافة إلى الصفات الآسرة في القائد فإن هناك وسائل أخرى يستخدمها لإكمال إحكام السيطرة على الجماهير، وجعلها تقوم بالأعمال الموكلة إليها دون روية ولا تفكير، وتختلف تلك الوسائل باختلاف الهدف المطلوب تنفيذه، فالوسائل التي تدفع الجماهير لإحراق قصر مثلا أو الدفاع المستميت عن حصن، تختلف عن الوسائل التي تجعلها تقنتنع بأفكار وتؤمن بمعتقدات مثلا.

1 ـ وسائل تثبيت الفكرة في نفوس الجمهور

هناك ثلاث وسائل يعتمدها القواد لإقناع الجماهير بفكرة أو بث معتقد في نفوسها ـ حسب غوستاف لوبون ـ وهي (التوكيد ـ التكرار ـ العدوى)، أما التوكيد فيعني صياغة الفكر في قالب المسلمَّة التي لا تقبل النقاش، ويرى لوبون أن التوكيد يؤثر بشكل قوي كلما “بسيطا خاليا من التعقل والدليل، وكلما كان التوكيد موجزا ومجردا عن كل ما له مسحة الحجة والتقرير كان عظيم التأثير” ص72. ويضرب لوبون مثالا على ذلك بالكتب الدينية (القرآن كتاب حجة وبرهان واستدلال عقلي) فإنها تصوغ الأفكار بكل توكيد.

وإذا شفع التوكيد بالتكرار فإنه يفعل في النفوس أكبر الأثر، والتكرار هو الوسيلة الثانية للإقناع بالفكرة عند لوبون، وقد قال نابليون:”أهم صيغ البيان التكرار”، والتكرار لا يؤثر في العامة فقط بل إنه عظيم الأثر في عقول المستنيرين، ذلك لكون الشيء المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تتحكم بدرجة أولى في أفعال الإنسان.

بعد فترة ينسى الإنسان صاحب القول المكرر ويبقى معه القول فقط، ولذلك فإن التسويق والدعاية يعتمدانه بشكل كبير، فلو أن أحد منا قرأ مائة مرة أن أجود جبنة مثلا هي جبنة الشركة الفلانية، فإنه بعد فترة سيظن أنه قرأ هذه الفكرة من مائة مصدر وبالتالي ستصبح مسلَّمة لديه.

أما الوسيلة الثالثة فهي ما سماه (العدوى) وتعني حسب سياق ورودها ذلك الفعل الذي نقوم به بناء على التأثر بعامل خارج عن ذواتنا، وهي تتحقق بشكل كبير في الجماعات والاجتماعات الكبيرة، فكما يقول عبد الكريم بكار في كتابه (التفكير الموضوعي) فإن الإنسان في الجمهور يأخذ سند فعله من فعل الشخص الذي يحاذيه، فإذا صفق أو هتف وجد نفسه يفعل ذلك تلقائيا حتى يعم التصفيق أو الهتاف الجمهور كله، وهو شيء ملاحظ في الاجتماعات الكبيرة.

2 ـ وسائل دفع الجمهور لعمل ما

أما وسائل دفع الجماعات إلى القيام بعمل ما، ولو بدا مستحيلا، فأهمها النفوذ، والنفوذ يحصل من الوسائل الثلاث السابقة (التوكيد ـ التكرار ـ العدوى)، والنفوذ هو عبارة عن سلطة خفية تستولي على العقول، وقد يقترن بالإعجاب أوالرهبة وقد يفارقهما، مثل نفوذ الذين ماتوا، فإنه لا محل للخوف منهم، ولكن قوة نفوذهم ما تزال سارية بعدهم في الوجود.

وينقسم النفوذ إلى نفوذ شخصي ونفوذ مكتسب، والنفوذ المكتسب يزول مع زوال سببه (مال ـ جاه ـ سلطة)، أما النفوذ الشخصي فهو دائم وعميق، وهو النفوذ الذي يكون لدى العظماء والقادة الكبار، “وقد يذهب النفوذ بالخذلان فجأة وقد يهب النفوذ البحث فيه، ولكن ذلك لا يتم بالتدريج وهذه الوسيلة هي أضمن الوسائل لإضاعته، وما من إله أو إنسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها” ص82.

بقي أن أشير إلى مسألتين مهمتين، أولاهما هي أن ما ذهب إليه لوبون من التفريق بين أنماط القادة هوم مايسميه أهل التنمية البشرية الفرق بين القائد والمدير، وثانيتهما هي أن هذا الكتاب (روح الاجتماع) لغوستاف لوبون كتاب لا تغني القراءة فيه عن قراءته، ولا تكفيه قراءة واحدة، فلا بد لمن يريد قطف ثمرته أن يعيد إليه النظر كرتين أو ثلاث ليؤذن له بمزيد فهم.