(سيبويه معتزليا، حفريات في متافيزيقا النحو العربي) هذا هو عنوان كتاب إدريس مقبول الذي استقصى فيه بكثير من الجمع والمقارنة والاستنتاج الأثر المعتزلي في مدونة (الكتاب) التي ألفها إمام النحاة سيبويه متتبعا الحبل السري الذي يجمع بين المسلمات والمقدمات والنتائج التي استخدمها علماء الكلام في مذهبها الاعتزالي وبين قواعد النحو العربي وعلله ومسلماته.

يذهب اللساني الفرنسي جورج مونان إلى أن قضايا اللغة تاريخيا كانت ملابسة لقضايا المعتقد في الحضارات كلها التي عرفت بكتاب سماوي، ويؤكد مقبول أن هذه الملابسة “لم تكن تتخذ دائما طابعا برانيا واضحا، بل كانت تخفي نفسها وتتدثر لأسباب كثيرة خلف المعمار المعرفي الذي يتخذ منها خلفيته ومقدمته المسكوت عنها” ص13.

يشرح الكاتب في الصفحات الأولى موضوع الكتاب وغايته، فيقول:”هذا العمل عبارة عن حفريات في أول مدونة نحوية في تاريخ اللغويات العربية، عمل يتوخى الكشق عما يسميه أحمد العلوي المقدمات السرية للمعرفة عموما والمعرفة النحوية على وجه الخصوص، ونعتقد أن نص كتاب سيبويه الموسوم (الكتاب) بما تضمنه من هندسة معرفية غاية في الدقة والنظام الذي لا يكشفه الظاهر(..) يعكس أنموذجا إدراكيا عقلانيا واعتقاديا ندعي في عملنا هذا أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن ثقافة معتزلية” ص16.

يناقش المؤلف انتماء سيبويه وهل هو معتزلي أم سني أم غير ذلك، ويثبت بالتاريخ اعتزاليته ويؤكد ذلك من خلال أدائه الفلسفي في مدونته الفريدة (الكتاب).

وعبر أكثر من 300 صفحة حاول المؤلف أن يثبت نظريته التي ترجع نحو سيبويه للبرنامج الكلامي الاعتزالي من أجل هدفين، أولهما أنه ما من نظر في اللغة إلا وله خلفية فلسفية تؤطره وتوجهه، والثاني هو الرد على تيارات الاستشراق التي لا ترى في العرب أهلية لإنتاج أي نظر فلسفي وترد كل ذلك إلى أصول غير عربية.

لأجل إفحام المستشرقين وضع المؤلف فصلا خاصا بـ(الأصولية النحوية) مناقشا مختلف النظريات التي قدمت في ذات السبيل ومقسما لها إلى ثلاث هي:

1 ـ الإبيستمولوجيا المفصولة

وهي التي ترى أن النحو العربي “مدين للفلسفة اليونانية في قيامه وبنائه نشأ في بيئة متشبعة بها، ورتبت أبوابه على هدى من مقولاتها” ص23، وورائد هذه الدعوى هو المستشرق أ.مركس وقد تلقفها بعض المثقفين العربي بكثير من الاحتفاء، مستدلين بمزامنة حركة الترجمة لنشأة النحو العربي.

ويرد المؤلف على هذه النظرية بأن الترجمة التي عول عليها أصحاب هذا الرأي في انتقال التقسيم الأرسطي لأجزاء الكلام إلى نحاتنا، خصوصا سيبويه، لم تكن واقعا إلا بعد وفاته، الأمر الذي لم يسمح بالاتصال، ثم إن أصحابها يؤسسونها على التخمين والافتراض، فهم لم يذكروا نحويا واحدا أخذ عنه سيبويه النحو الإغريقي، كما أن مقولات أرسطو العشر تختلف عن مقولات النحو العربي عددا وطبيعة ومضمونا.

الاعتقاد الثاني في (الإبيستمولوجيا المفصولة) فيرجع بالنحو العربي إلى المنطق اليوناني، مع أن ظهور الملامح المنطقية في النحو العربي لم يكن قبل القرن الرابع الهجري، أي بعد سيبويه بقرون، وعلى افتراض التأثر المتأخر بالمنطق اليوناني ـ يقول مقبول ـ فإن جهودا مقاومة ظلت حريصة على تبيان الفروق بين الصناعتين (النحو اليوناني والنحو العربي) ولعل كتاب الإيضاح في علل النحو للزجاجي أكبر دليل على الفرق بين الاثنين.

أما الاعتقاد الثالث فيرد النحو العربي إلى الفلكية البابلية وهو رأي طرحه أحمد العلوي فيه غرابة ودقة، وفيه يرى أن “النحو العربي قاس نظام الكائنات اللغوية على نظام المخلوقات الطبيعية، لاعتقاده أن الحكمة الإلهية المتجلية في الطبيعة من طينة الحكمة الإلهية المتجلية في اللغة” ص30. وهو طرح ليس له رجحان من ناحية النظر، لبعد ما بين العلمين ولطبيعة مصطلحات كل واحد منهما، ولكن هذا ـ كما يقول مقبول ـ “لا يمنع بحث المشاكلة بين مفهوم العمل عند النحاة وأرباب هذه الصنائع، إلا أنه بحث مبني في جوهره على مقايسة تتجاوز إطار التاريخ الذي يحكم العلاقة بين المعرفتين” ص32.

2 ـ الإبيستمولوجيا الموصولة

وهي نظرية ترى أن النحو العربي استفاد من علوم عربية وإسلامية متنوعة، فأخذ عن بعض آلياتها وأدواتها المنهجية، في حين استأثر بأخذ فلسفته عن علم الكلام، ومن تلك العلوم علم الفقه وأصوله، ومن الواضح تلك العلاقة القائمة بين أصول الفقه وبين علم الكلام، ذلك أن المعتزلة ـ خصوصا الذين تأثر بهم سيبويه ـ كانوا رؤوسا في الكلام وأصول الفقه على السواء، بل إن بعض الآراء يذهب إلى أنهم سبقوا الشافعي إلى الكلام في علم الأصول ووضع قواعده الكبرى.

فقد ذكر العسكري في كتابه (الأوائل) أن واصل بن عطاء كان أول من قال بأن الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل وإجماع. وأول من علم الناس كيف مجيء الأخبار وصحتها وفسادها، وأول من قال: الخبر خبران: خاص وعام إلخ. ويظهر تأثر سيبويه بالفقه من خلال أمثلة كثيرة مبثوثة في ثنايا الكتاب.

كما أن النحاة ألفوا في أصول النحو على طريقة الفقاء في أصول الفقه ومن ذلك كتاب الإنصاف لابن الأنباري وكتاب الاقتراح للسيوطي وكتاب الخصائص لابن جني وغير ذلك كثير.

وأما علم الحديث فلسيبويه به علاقة خاصة حيث كان أول طلبه للعلم في مجالس المحدثين، وقد انصرف عنه بسبب حادثة وقعت له، وقد أصبح بعد ذلك له موقف من المحدثين لا من الحديث نفسه، فقد كان موقرا للعلوم النقلية، وإذا كان أثر الحديث لا يظهر في (الكتاب) من خلال الشوتهد الحديثية فإنه يظهر من خلال استخدام بعض صيغ الأداء والتحمل المقتبسة من العلم الحديث، من خلال حديثه عن عدالة الراوي وخلوه من خوارم المروءة، وهو أمر شائع عند النحاة وقد عقد ابن جني النحوي في كتابه (الخصائص) بابا سماه(باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة”.

3 ـ الإبيستمولوجيا المأصولة

والفرق بينها وبين الابستمولوجيا الموصولة هو الفرق بين (الوصل والأصل) فالوصل يقتضي التأثر ولا يقتضي البناء ولكن الأصل يقتضي البناء عليه، فالمؤلف يريد أن يقول أن تلك العلوم التي تحدث عن صلتها بعلم النحو أثرت فيه ولكنه لم ينبن عليها وإنما كان بناؤه على مسلمات ومقدمات ونتائج علم الكلام الذي يتقاطع معه في المنطلق والمسار، حيث اللغة وعاء العقيدة والفلسفة معا.

ولذلك كانت كل فصول الكتاب التالية تفصيلا وتمثيلا وتدليلا على علاقة النحو العربي بعلم الكلام في مذهبه الاعتزالي، سواء في مقولاته أو مقدماته أو مصطلحاته.

وقد تحدث الكاتب بتفصيل ممتع عن متافيزيقا أبواب النحو الرئيسية وكيف تأثرت بفلسفة علم الكلام، مثل: ميتافيزيقا الوجود النحوي وميتافيزيقا الوجود العاملي وميتافيزيقا الاسم والصفة إلخ.

ملاحظة: الكتاب صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015