“إن هداية الحواس تحتاج إلى العقل ليصحِّح خطأ الحواس، وهداية العقل تحتاج إلى هداية أكبر منها لتصحِّح خطأ العقل وهى هداية الوحي” هكذا تحدث الشيخ محمد عبده، فالوحي المنزل هو المعيار للعلوم والمعارف، فهو مُطلق منزه، متجاوز، ورغم نشأة عدد من العلوم الإسلامية كالفقه والأصول والتفسير حول الوحي، إلا أن مرور الزمان أصاب الكثير من هذه العلم بالجمود، ولم تستطع أن تحول الوحي معينا تستمد منه العلوم الإنسانية.

وفي محاولة لتجديد الاستمداد من الوحي، معرفة، ورؤية، وتأصيلا، وتفعيلا؛ تأتي دورية “نماء” في عددها الثاني (شتاء 2017) في أكثر من أربعمائة صفحة، والصادرة عن مركز نماء للبحوث والدراسات في السعودية، المحكمة والمتخصصة في علوم الوحي والدراسات الإنسانية، كجهد معرفي مميز يسعى لربط المعرفة الإنسانية بالوحي، حيث خصصت ملفها للبحث في “علوم الوحي وفلسفة العلم: العلاقة وحدود التفعيل”، حيث طرح الملف عددا من الإشكالات المعرفية حول أزمة العلم المعاصر، وقضية التكامل بين العلوم والمعارف.

فالعقل المسلم المعاصر يحتاج إلى أن يوجد تفاعلا بين علوم الوحي، وبين الدراسات الإنسانية، ليبحث عن كل ما هو حي، وكل ما فيه طاقة مبدعة أو قانون منهجي، فالوحي هو النموذج المعرفي الأكبر الذي يجب أن تستمد منه العلوم رؤيتها ومنهجها.

المعرفة بعيدا عن الوحي

طرح الفيلسوف “كانط” تساؤلا مهما حول الإيمان العظيم بالعقل في المعرفة الحديثة، واعتبر أن هناك تهورا في استخدام العقل، وثقة مطلقة في مناهج العلم الحديثة ، وهو ما أوجد أزمات في المعرفة الغربية المعاصرة التي آمنت بالعقل إيمانا مطلقا، وبالعلم كسبيل للخلاص الإنساني، فتحول العقل من آلة وعملية تفكير ليصير جوهرا، وتحول قصد العلم من الوعي بنظام العالم، ليصبح واهبا للقيمة والمعنى، وأنتج هذا الأمر الفلسفة الوضعية في الفكر الغربي، حيث سعى بعض روادها مثل “أوغست كونت” لبناء وتأسيس نموذج علمي قادر على التخفيف من تأثير الأيديولوجيات، ومن حضور العاطفة في البحث العلمي، لذا شن هجوما على الفلسفة والدين واعتبرهما مسئولين عن الفوضى الفكري، وأنهما يبتعدان عن إدراك الواقع، لأن ما يعنيهما هو الجوهر، وهما بذلك يؤسسان لنموذج ميتافيزيقي (ما وراء المادة أو غيبي) برأيه يعد نموذجا غير نافع، لذا قسم “أوغست” العلوم بحسب دقتها وتعميمها وتجريدها إلى ستة أصناف أعلاها الرياضيات وأدناها السوسيولوجيا، أي العلم المختص بالمسائل الاجتماعية.

والواقع أن تلك المناهج الوضعية جاءت في إطار صراع العلماء مع الكنيسة في فرنسا، لذلك يفهم تحول تلك المدرسة الوضعية لتصبح الفلسفة الرسمية للعلم في القرن التاسع عشر في أوروبا، لذا كان رفض فكرة اليقين المطلق (الوحي أو الغيب) حادا في تلك الفترة، لكن المثير للدهشة أن تحول إيمان الفلسفة الوضعية بغياب المطلق إلى مطلق وأيديولوجيا، وأصبح اعتقادها بعد الحسم حسما، لذا سرعان ما انطفأ بريقها ووهجها لمواقفها الحدية من الدين والفلسفة، لذلك تنبه بعض الفلاسفة الغربيين “أن جذور العلم الحديث توجد في إلهيات القرون الوسطى” وأن الفيزياء والميتافيزيقا نظامان متكاملان، وهو ما دفع بعض الجامعات الغربية إلى استحداث شعبة “الفيزياء اللاهوتية”.

والحقيقة أن العقل الإنساني يحتاج نفسه إلى تحرر من كثير من أوهامه في الوثوق بالاستقلالية الكاملة، فالعلم يحتاج إلى الوعي بأصوله المعرفية وخلفياته الفلسفية، ورؤيته للكون والإنسان والحياة، في ظل حالة الانفصال وجدنا علوما اجتماعية حديثة مقطوعة الصلة بالوحي، وعلوما شرعية غير فاعلة في التطور الاجتماعي.

ويعد التمييز بين موضوعات العلوم ضرورة منهجية، لأن العلوم تختلف باختلاف موضوعاتها، وحتى يكون العلم مستقلا يجب من تحديد موضوعاته، وهذا التحديد عملية صعبة وليست يسيرة نظرا لتداخل العلوم والمعارف وتشابكها، وهنا تبرز بعض المشكلات تتعلق بعلاقة الذات بالموضوع، فالمعرفة تُكتسب ثم يتفاعل معها عقل الإنسان ثم يُعاد إنتاجها مرة أخرى، وهو ما يعني أن الذات حاضرة ولا يمكن إغفالها، وهو ما يدحض الفلسفة الوضعية.

وقد قدم القرآن الكريم للإنسانية في القرن السابع الميلادي منهجية معرفية في هداية الإنسان وبناء العمران، وتعقل الواقع، وفهم العالم، متجاوزا كل الأطر المفهومية والمرجعية والمعرفية للفلاسفة ورجال الدين آنذاك، فهو خطاب إلهي يتسم بالإطلاقية، والهيمنة، والخاتمية، والكلية المستوعبة لكل آفاق الحق والكون والحياة، والمتجاوزة لها، ويبقى جاهزا لتجاوز كل الأزمات والاختلالات التي تصيب العقل والواقع.

التكامل المعرفي

اهتمت “نماء” بطرح إشكالية مهمة وهي التكامل المعرفي بين العلوم، كسبيل للاقتراب بين علوم الوحي وبين العلوم الأخرى، فتمزق التخصصات المعرفية، وانغلاقها، وإعجابها بذاتها، وبمنجزها، أوجد أصناما وأوهاما في مجال العلم، ومع مرور الوقت وغياب النقد تحولت الأوهام، في اللاشعور، إلى حقائق، وتحول ما هو عقلاني في العلم، إلى ما هو غير عقلاني في الشعور والإدراك؛ لذلك كان الخروج من حالة الصنمية العلمية، بالتكامل المعرفي، فهو محاولة لترشيد الغلو في الأجزاء المعرفية في الوعي البشري، والتوحيد هو منطلق تحقيق التكامل بين دائرتي العلم والإيمان، فهناك فلسفة تكامل معرفي في الرؤية القرآنية، وهذا التناسق المعرفي مدخل لتحقيق وحدة المعرفة، وفهم حركة العلم والحياة الإنسانية.

ولكن، هل يعني تكامل المعرفية في الرؤية التوحيدية: ردم الهوة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية؟ أم خلق تطعيم إيجابي ومتبادل بين المعارف الشرعية بإيجابيات المعارف الإنسانية والاجتماعية؟ أم تعظيم محصلة التداخل بين قوانين التاريخ والطبيعة والنص الديني من خلال رؤية واحدة تحقق الانسجام بين شرع الله وخلق الله؟

إشكالات واجتهادات كثيرة تثيرها تلك الرؤية، إلا أن هذا التكامل المعرفي لا يقتصر على مجرد إزاحة تلك المسافة بين العلم الاجتماعي والعلم الشرعي فقط دون النظر إلى الخلفيات والمنطلقات والمنظومة التي يصدران عنها، فالفلسفة لا تنفصل عن العلم، ومن ثم فالتكامل المعرفي ليس تطعيما أو تلفيقا أو مُماثلة، ولكن حقيقته هي إعادة بناء المنظومة المعرفية للعلوم بما يتوافق مع بنيتها وطبيعتها وخصائصها، لذا فهو ليس ترفا فكريا، ولكنه ضرورة فلسفية وتاريخية وأكاديمية لأن الحدود بين العلوم هي حدود إجرائية، وليست أسوارا حابسة للتفاعل، وحاجبة للتكامل.

ويلاحظ أن غياب هذا التكامل جعل مدرسة العلوم الاجتماعية الحديثة أكثر قدرة على ملء الفراغ الذي أوجده جمود العلوم الشرعية، وعجز القائمين عليها عن استيعاب القضايا المستحدثة وفحصها بالمنهجيات الشرعية، رغم أنه من الحقائق التي يغفل عنها الكثيرون أن علوم الشرع في أصلها ونشأتها هي علوم اجتماعية.

المقاصد والسنن

تناولت “نماء” المقاصد والسنن باعتبارهما مدخلا مهما للتقارب بين علوم الوحي وبين فلسفة العلم، وتناولت علم السيرة، والأصول، والعمران، ودعت إلى وجوب تصحيح النظر إلى السيرة النبوية، نظرا لأننا نستمد منها السنن الاجتماعية والعمرانية، لما تضمنته من مسلك النبوة في إقامة عمران إنساني عالمي وفق منظور سُنني حضاري، فوفقا لهذه الرؤية يمكن فهم وظيفة السيرة الحضارية، في أفق استعادة الإنسانية لرشدها، وتحقيق الأمة الإسلامية لواجب الشهود على الناس، كما يكشف عن إمكانيات العطاء غير المحدود للسيرة في الزمان والمكان، وإمكاناتها في الاستجابة لقضايا العصر ومشكلاته، وهو ما يستوجب بذل جهد معرفي في تقديم الإجابات المناسبة والناجزة لمشكلات الحضارة القائمة، وتحرير السيرة النبوية من النظرة التجزيئية في دراستها إلى الرؤية الكلية المقاصدية التكاملية لتحقيق الهداية الحضارية.

أما علم أصول الفقه الذي يشكل نسقا ناظما لبنية العلم الإسلامي، فالتكامل بين علم الأصول وبين علم العمران وعلم السيرة يساهم في ضبط محل الاقتداء، ويميز بين مقامات التصرفات النبوية، حيث أوقعت الغفلة بشأن هذا الترابط بين تلك العلوم، الكثير من المشكلات والأغلاط في حياة المسلمين، فجوهر علم الأصول هو بيان فهم قوانين فهم الشريعة، أما جوهر علم العمران، فهو بيان سنن وقوانين فهم المجتمعات، وجوهر علم السيرة، هو الكشف عن ممارسات النبوة النموذجية الإنسانية المحققة للتناغم بين قوانين فهم الشريعة وقوانين فهم المجتمعات.

وهذا بحث في الكليات، والكلي هو أساس التكامل، ومن ثم فالبحث في فلسفة التكامل بين علم الأصول والعمران والسيرة مهم للعلوم الإسلامية، وكما يقرر ابن عربي أنه ” لا خلاف بين الأمة أن أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم،  ملجأ في المسألة، ومفزع في الشريعة، وبيان للمشكلة؛ فقد كانت الصحابة-رضي الله عنهم- تبحث عن أفعاله كما تبحث عن أقواله، وتستقري جميع حركاته وسكناته، وأكله وشربه، وقيامه وجلوسه، ونظره ولبسته، ونومه ويقظته، حتى ما كان يشذ عنهم شيء من سكون ولا حركاته، ولو لم يكن ملاذا، ولا وجد فيه المستعيذ مَعاذا؛ لما كان لتتبعه معنى”، ومن هنا فالبيان العملي أبلغ من البيان القولي، وكما ذكر “الشاطبي” في “الموافقات”: “والعمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة” ومن هنا تتكامل السيرة النبوية مع علم العمران من جهة كونها تعد منهجا نموذجيا وممارسة تطبيقية مثالية في إقامة العمران الإنساني، قادرة على إفادة العلوم الاجتماعية والإنسانية منهجيا ومعرفيا، وقادرة على تقديم بصائر تستهدي بها هذه العلوم في الخروج من أزمتها المعاصرة.

فالإمام الشاطبي لاحظ عجز الفقه في معالجة التغيير الاجتماعي والاقتصادي في القرن الثامن الهجري في الأندلس، لذا حاولت نظريته أن تستجيب إلى الحاجات الخاصة بزمنه عبر إظهار كيف يمكن تكييف الشرع مع الظروف الاجتماعية الجديدة، فحاجة الفقيه إلى معرفة الوقائع المتجددة ضرورة، وهو ما يفرض ارتباط العملية الاجتهادية بالعمران بمنطق جدلي، والعملية الاجتهادية مقصودها المصلحة والإصلاح.

وفقه السنن قائم على حفظ المصلحة وحفظ المقصد، ومراع للحكمة والتعليل، وناظر للعواقب والمآلات، وارتباط الأسباب بالمسببات، وهنا يتجلى نموذجان في الحضارة الإسلامية، نموذج الإمام الشاطبي في فهم المقاصد، ونموذج ابن خلدون في فهم سنن الاجتماع، فابن خلدون وضع المقاصد في السياق التاريخي، أي في المجال الاجتماعي، ونقل بعض المحرمات في الشريعة من الحكم الديني إلى الإطار الاقتصادي والاجتماعي، أو بمعنى آخر أن ابن خلدون التمس للتحريم الشرعي علة اجتماعية تتصل بالعمران البشري، أما الشاطبي فكانت انطلاقته من النص الشرعي لفهم المقاصد والسنن.