3- المجال الوعظي الإرشادي: 

هذا المجال كثيراً ما يعكس غيرة المسلم وخيريته، وحرصه على تبليغ الرسالة، وعلى استقامة المسلمين وتحسّن أحوالهم، وهو مجال مهم، وله دور حيوي في إبقاء الوعي الإسلامي متيقظاً ومنفتحاً على الأوامر والنواهي. من طبيعة العمل في هذا المجال دفع العاملين فيه إلى السحب من رصيد الحقيقة، وتجاوز البراهين والأدلة المتوفرة على حكم من الأحكام أو في قضية من القضايا، أو مقولة من المقولات؛ فحماسة الداعية للقضية التي يتحدث عنها وحرصه على إقناع الناس بما يقول يجعلانه لا ينتبه إلى أنه تجاوز القصد والاعتدال، وأنه صار يسلك مسالك مندوبي الدعاية والتسويق، والذين لا هم لهم سوي أن يبيعوا أكبر عدد من الزبائن بأعلى قدر من الأسعار.
الوعاظ والدعاة اليقظون والورعون جداً هم الذين يستطيعون النجاة من ذلك إلى حد بعيد، ولكن ربما بشكل غير مستمر. وظاهرة القصّاص في التاريخ تحكي في معظم الأحوال هذه الحقيقة، وقد وضع أقوام منهم بعض الأحاديث من أجل حث الناس على عمل ما يعتقدون أنه مهم لفلاحهم، ولما حُذَّر بعضهم من ذلك، وذُكِر لهم الحديث “ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” قالوا: نحن نكذب له لا عليه!.

السحب من رصيد الحقيقة يتجلى أحياناً في التهويل والمبالغة حين يُصوَّر خطأ من الأخطاء أو معصية من المعاصي على أنه كارثة الكوارث. وحين يُصوّر عمل من الأعمال النبيلة على أنه السفينة التي ستنقل الناس إلى بر الأمان. ويتجلى السحب من رصيد الحقيقة في أحيان أخرى في التعليلات الفاسدة والتحليلات السطحية والقول بغير علم؛ وهذا كثيراً ما يتم من غير وعي ولا إدراك، ومن هنا فإن المشتغلين بالوعظ في حاجة إلى طاقة هائلة من أجل ردع أنفسهم عن الانسياق خلف عواطفهم.

4 – المجال التجاري:

يُثبت النظام التجاري يوماً بعد يوم أنه أقوى النظم الثقافية على الإطلاق، فإذا كان المرء طبيباً وتاجراً؛ فإن التجارة ستخطفه – في الغالب- من الطب، ويؤول أمره إلى أن يصبح تاجراً بمعنى من المعاني، وكذلك الشأن فيما لو جمع المهندس والمدرس والمزارع والموظف بين مهنته وبين التجارة. وإني أظن أن هيمنة التجارة على حياة الناس نابعة في الأساس من أنها تعيد بآفاق غير محدودة من الربح والثراء، وهذا ما يبحث عنه الإنسان الذي لا يملأ فمه إلا التراب. وقد ورد في الحديث أنه في آخر الزمان تفشو التجارة حتى إن المرأة لتشارك زوجها في التجارة، مما يدل على قدرة هذا النظام على اختراق كل العلاقات حتى العلاقة الخاصة القائمة بين الزوجين.
في المجال التجاري تكثر الأيمان ويكثر المديح للسلعة والتشكي من الخسارة فيما إذا بيعت بأقل من كذا أو كذا. وفي المجال التجاري يكون الغش والدعاية الكاذبة والإعلان المبالغ فيه، كما يكون فيه إخفاء العيوب، ويكثر بخس الناس أشياءهم، وكل ذلك استجابة لضغوط الشهوة إلى تكديس المال والتي تسيطر على نفوس البشر.

في زماننا تقوم العولمة على نحو جوهري على التجارة وعلى نشر الأخلاق والمفاهيم والتقنيات التي اعتمدها النظام التجاري، وهي في الغالب سيئة. ولهذا فإن مجال التجارة من أخطر المجالات على دين المرء وصدقه أمانته، وقد أثنى الله – جل وعلا- على أولئك الرجال الذين لا يشغلهم شاغل عن ذكر الله والقيام بواجباتهم، وخص البيع والتجارة لشدة تأثيرها في صرف الإنسان عن المسار الصحيح، فقال سبحانه : (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله …) الآية. وقد ورد أن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال لأصحاب الكيل والميزان من التجار: ” إنكم وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السابقة قبلكم”.
معرفة طبائع الأشياء تعني معرفة السنن التي سنها الله – تعالى- وبثها في الأنفس والموجودات؛ وهي معرفة مهمة جداً لفهم أنفسنا وفهم العالم من حولنا. والخروج عن هذه الطبائع يظل في كثير من الأحيان ممكناً، لكنه يحتاج إلى مجاهدة وإلى جهد استثنائي حيث السباحة عكس التيار، وحيث الخروج على المعروف والمألوف.