نتابع في هذه المقالة الثالثة ما يتعلق بالدائرة الحيوية لعمل الاجتهاد المعرفي في ضوء هذه المقدمة المنهجية التأسيسية التي نطرحه، ونتناول هنا ما يتعلق بعالم أفكار الأمة باعتباره الدائرة الحيوية للاجتهاد المعرفي وعمله وطرائقه ومشكلاته وبعض مجالاته.

الدائرة الحيوية: عالم أفكار الأمة

وفقًا لما تقدم – في المقالتين السابقتين- فإن موضوع الاجتهاد المعرفي هو “عالم أفكار” الأمة هذا العالم الذي أصيب بالخلل منذ عصور التدهور الحضاري، وتراجعت فيه قيمة الأفكار ومكانتها في التغيير الاجتماعي، وبذلك فقدت الأمة المقوم الأساس لنهضتها وهو “الفكرة” الفاعلة وحلت محلها الغفلة الوجدانية والاجتماعية، وقد ترتب على هذا الخلل في عالم أفكار الأمة، خلل آخر في وسائل الفاعلية فلم تعد قادرة على بناء شبكة من العلاقات الثقافية والاجتماعية التي تؤسس لفعل الخروج من حالة التراجع أو ما بعد الحضارة إلى حالة الحضارة.

ومن النتائج التي ترتبت على الخلل في (عالم أفكار) الأمة وغياب (وسائل الفاعلية) وتشوه دور (المثقف المسلم) في العالم الإسلامي، سيادة حالة التوهم والوهن في الإعداد للنهوض الحضاري والتي استبدلت التكديس بالبناء مما جعلها تعيش فترة أكبر، وتفقد الجهد والوقت إلى حد الإسراف في هذا الإعداد الحضاري الذي لم يتم، ولن يتم في ضوء خيار “التكديس” القائم على اختيار عقلية التوهم والوهن.

وهذه الإشكالية أوقعت المجتمع الإسلامي في تناقض واضح بين فِعْلَي “التكديس” و”البناء” وبين الاستعارة والفعالية، “حيث أورث ذلك تدهورًا في قيمة الأفكار الموروثة، وتدهورًا في قيمة الأفكار المكتسبة، وقد حملا أفدح الضرر في نمو العالم الإسلامي أخلاقيًا وماديًا. وإن هذه النتائج الاجتماعية لذلك التدهور نصادفها يوميًا في صورة غياب لكل فعالية، وقصور في مختلف أنشطتنا الاجتماعية، فمن ناحية فإن الأفكار التي  أثبتت فاعليتها في بناء الحضارة الإسلامية منذ ألف عام تبدو اليوم عديمة الفعالية، لأنها فقدت التصاقها بالواقع”.([1])

وفي ضوء هذا التحديد المنهجي فإن الاجتهاد المعرفي -في هذه المقدمة المنهجية- هو العملية الفكرية التي يقوم بها: باحثون ومفكرون وعلماء مسلمون من أجل بناء نظام معرفي إسلامي يجيب للمسلم المعاصر على تساؤلات العصر الحضارية الكبرى مثل: تشخيص حالة التراجع الحضاري وعواملها، وبناء مسارات النهضة الحضارية، والنظر إلى إشكالات تلك النهضة وعوائقها، وكيفية التغلب على تلك العوائق من خلال “التوصل إلى مقولات تحليلية تستند إلى النموذج الإسلامي، وذات مقدرة تفسيرية عالية”.([2])

ويعالج الاجتهاد المعرفي –أيضًا- إشكاليتين متناقضتين وقع فيهما العقل المسلم:

الأولى: منذ  عصر التراجع الحضاري وهي: الجمود والتقليد والتعصب المذهبي

والثانية: وقع فيها العقل المسلم إبان عصر النهضة الأوروبية وهي إشكالية الاستلاب العقلي والتغريب أو”المسخ الحضاري”، وما كان لهاتين الإشكاليتين من آثار معرفية بالغة الخطورة، إن تحرير الإنسان المسلم من هاتين الآفتين من أهم الوظائف التي يضطلع بها هذا النوع من الاجتهاد أي الاجتهاد المعرفي،”إن نهضة المسلمين ليست ممكنة إلا إذا تحاشينا عقبة مزدوجة، وهي تقليد الغرب، وتقليد الماضي”.([3])

وبناء على هذا فالاجتهاد المعرفي هو اجتهاد مقاصدي للمعرفة -يُستمد من المصادر التي ذكرناها- يسعى إلى بناء مقاصد عليا للمعارف والعلوم والقضايا المعاصرة سواء التي تتولد داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه في المجتمع العالمي.

والاجتهاد المعرفي -أيضًا- يؤسس لنسق معرفي إسلامي ينطلق منه النظام المعرفي والمنظور الحضاري لبناء وتجديد العلوم الإنسانية المعاصرة باعتبارها من أهم المعضلات المعرفية المعاصرة التي تواجه العقل المسلم.

ومن نماذج الاجتهاد المعرفي- على سبيل المثال لا الحصر – التي قدمها مفكرون في الأمة، ما قدمه مالك بن نبي في “المسلم في عالم الاقتصاد” و”محمد باقر الصدر” في “فلسفتنا”، و”الأسس المنطقية للاستقراء” و”البنوك اللاربوية” وإسماعيل الفاروقي في “التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة” و”عبد الوهاب المسيري في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد” ، وعلي شريعتي في “العودة إلى الذات” أو “ماذا يجب عمله؟”، وغيرهم ممن أسهموا في سير حركة الإصلاح /الاجتهاد المعرفي في الأمة.*

إن مجال “الاجتهاد المعرفي” -كما نتصوره في هذا الطرح- يدخل فيه هو كل ما يستهدف جلاء الفكرة الإسلامية لإخراج المسلمين من التقليد والجمود أو الاستلاب إلى طور حضاري جديد يعتمد هذه الفكرة منطلقًا و مرتكزًا و إطارًا فكريًا، ويخرج العالم والإنسان المعاصر من ظلمات المادة والجسد إلى نور الروح والهداية، وهذا هو المستهدف الأساسي لهذا المفهوم.

في مجالات الاجتهاد المعرفي

من المجالات التي يسعى الاجتهاد المعرفي إلى البحث فيها والعمل على تقديم طروحات مناسبة وملائمة للتطبيق في واقع الأمة:

1 – البحث في نوعية المشاكل التي يواجهها العصر الحديث وإيجاد الحلول لها من منظورنا حضاري.

2 – البحث في “فقه الحياة”([4]) الذي هو في جوهره أداة تجديد معرفي للأمة: وذلك بما يقدمه من إمكانيات لقراءات جديدة للتراث والمعاصرة، قراءات بأدوات من جوهر الإسلام نفسه، متسقة مع معدن التراث، وذات قابليات عالية لاستيعاب المستجدات، وإخراج المسلم والأمة من حال الحرج إلى حال السعة…

3 – الوقوف على نظريات ومداخل جديدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية مصدرها المرجعية الحضارية، وتجيب عن مطالب الواقع الحالي.

4 – طرح الوسائل والطرق لتطبيق الإسلام على الواقع الاجتماعي المعاصر، وتحقيق المشاركة الحضارية، وبعث الفعالية الإسلامية، والحفز العقلي لإدراك المسلمين للسنن الكونية في قيام الحضارات وقوانين السقوط، والاعتبار لمقاصد الدين حاكمة للنشاط الفكري والاجتماعي في واقع المسلمين.

ويمكن الإشارة إلى خمسة إشكالات أساسية يحاول “الاجتهاد المعرفي” وتدخل ضمن مجالات البحث فيه أن يجيب عنها وهي:([5])

1- البناء الدعوي والبناء التربوي.

2 – فهم الإسلام: فهناك خلل واضح في فهم كثيرين للإسلام وقصور واضح في الوعي بتعاليمه، ومراتبها، وأيهما الأهم وأيهما المهم، وأيهما غير المهم.

3 – معرفة الواقع: فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر.

4 – معرفة الآخر: فهناك جهل بالآخرين، نقع فيه بين التهويل والتهوين… مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شئ.

5 – معرفة الذات: وهناك جهل بأنفسنا، فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعف لدينا.

 

 

 

 

 


([1])مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي, ترجمة: بسام بركة-أحمد شعبو, دمشق , دار الفكر, 1988, ، ص159.

([2]) عبد الوهاب المسيري: “أهمية البحث في النظام المعرفي”، مرجع سابق، ص54 .

([3]) روجيه جارودي: الإسلام والقرن الواحد والعشرون شروط نهضة المسلمين, مرجع سابق, ص 70.

* انظر: حسان عبد الله حسان: الإصلاح المعرفي والتغريب في العالم الإسلامي، مجلة المسلم المعاصر، القاهرة، العدد 152، ص91-158.

([4]) انظر: مهجة مشهور: “فقه الحياة: نحو اجتهاد معاصر”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (131)، السنة الثالثة والثلاثون، مارس 2009.

([5]) انظر : يوسف القرضاوي: “”الحركة الإسلامية في مجال الفكر والعلم”، مجلة المسلم المعاصر، العدد (57), السنة الخامسة عشر, أكتوبر 1990م.