فوجئ أحدهم بسؤال صادم من طفلة راهقت سن البلوغ : ما علاقة القدس بالدين؟ هَمَّ أن يعاتبها، أو أن يلوم والديها لكونهما لم يغرسا في نفسها الإجابة منذ الصغر، لكنه سرعان ما تراجع؛ إذ تذكر أنه قضى ضعف عمرها قبل أن يعرف  لهذا السؤال إجابة!

لكن، يبدو أن هذا الاستفهام  يساور آخرين غير تلك الصبيَّة، فقد خطب إمام المسجد عن القدس الذي ضاع ، فأرغد وأزبد، وصال وجال، وشجب واستنكر،  وقال في آخر خطبته : لا بد أن يلوم كل واحد منا نفسه على ضياع القدس، فإذا به بعد الخطبة، يسمع أحد المصلين يهمس لصاحبه في  استهزاء أو لا مبالة : اخجل من نفسك!

يبدو إذن أن الأمر أكبر من  معلومة تجهلها صبية، أو إحساس يفتقده شاب مقبل على حياة الكهولة. ولنفرض أن تلك الصبية لا تعلم فضل القدس، فماذا  يمكن أن يقال في حق ذلك الشاب وقد جلس يستمع قرابة الساعة إلى فضل القدس وأهميته !

البداية الخطأ

ربما كان يتصور البعض أن الحل يكمن في رص فضائل القدس ، والصدع بها على المسامع والإلحاح بها على الذاكرة، فيذكرهم أن فلسطين هي الأرض التي بارك الله فيها؛ ووصفها بالقداسة؛ موطن الأنبياء ومهد الرسالات. بها المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض، وقبلة المسلمين الأولى، وثالث المساجد التي لا تشد الرحال بقصد الصلاة إلا إليها، والصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة فيما سواه، إلا المسجدَ الحرامَ والمسجدَ النبوي، وقد أُسري برسول الله إليه، ثم عرج به إلى السماوات العُلى، وصلى فيه إماما بالأنبياء جميعًا، وأن القدس هي تلك المدينة التي تسلمها الأنبياء من بعضهم البعض إلى أن تسلم النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى في تلك الصورة الرمزية ليلة الإسراء والمعراج، ليلة أن قدموه ليصلي بهم جميعًا إمامًا.

وأن المسجد الأقصى أحد أربعة مساجد لا يدخلها المسيح الدجال، حيث يمكث في الأرض أربعين صباحا يبلغ سلطانه كل منهل إلا أربعة مساجد: الكعبة، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، والطور، تحرسها الملائكة من عدوانه.

أين الخلل؟

الخلل الذي يسكن عقل ذلك الشاب الذي تحدث عن القدس في استهزاء، والذي جعل تلك الصبية تستنكر وجود علاقة بين القدس والدين، منشؤه من التصور المشوَّه عن الدين، حيث يتصور الواقعون تحت نِيْرِ هذا التصور الخطأ، أن حَسْبَ المسلم أن يصلي ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة متى كان غنيًّا، ويحج إن استطاع، وليس عليه وراء ذلك من  تَبِعَة أو مسئولية، فقد أدى ما عليه نحو الدين، وإن شاء أن يترقى في درج الكمال، فليس عليه إلا أن يكثر من نوافل الصلاة والصيام، فذلك يضمن له أن يكون حبيب الرحمن، ولِمَ لا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ” وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”.

كثير من المسلمين لا يعرفون من واجبهم تجاه دينهم أكثر من ذلك، فإذا أدوا هذه الأركان، فلينصرفوا راشدين، يربون أولادهم ويحفظونهم من الضياع، ويعلمونهم حتى يستغنوا عنهم بالزواج والوظيفة، فإن فعلوا فقد أدوا رسالتهم في الحياة، وبرئت ذممهم من كل تبعة أو سؤال.

من هنا نبدأ

وسبب هذا الخطأ أن هؤلاء لا يًدركون إلا الواجبات العينية التي سبق ذكرها، ولكن يفوتهم أن الإسلام أكبر من ذلك وأعظم، فالإسلام يوجب على المسلمين فيما يوجبه التعاون والتراحم والتناصر فيما بينهم.

ومن آثار هذا التناصر :التكافل بين أبناء المجتمع المسلم،  يبدأ هذا التكافل بين الأقارب بعضهم وبعض، كما يفعل ذلك نظام النفقات في شريعة الإسلام. فالقريب الموسر ينفق على قريبه المعسر وفق شروط وأحكام مفصلة في الفقه الإسلامي، كما قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال: 75].

ثم تتسع دائرة هذا التكافل لتشمل الجيران وأبناء الحي الواحد في البلد الواحد، بمقتضى حق الجوار، الذي أكده الإسلام، وفى الحديث: ( ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع ) وفى الحديث الآخر: ( أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ).

وفي الحديث الذي يقض مضاجع الإنسان: ” كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، سل هذا لم أغلق بابه دوني ومنعني فضله 

ثم تتسع أكثر وأكثر بحيث تشمل الإقليم عن طريق الزكاة، التي أمر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أن تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه. وإن لم تكف الزكاة، تعلق الحق بما بقي من أموال الأغنياء.

جاء في المحلى

“إن وجد صغير منبوذ ففرض على من بحضرته أن يقوم به ولا بد، لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2] . ولقول الله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة: 32] . ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة مولودة على الإسلام – صغيرة لا ذنب لها – حتى تموت جوعا وبردا أو تأكله الكلاب هو قاتل نفس عمدا بلا شك. وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله».

التناصر من واجبات الدين

وهذا التناصر ليس من الكمالات والآداب ، بل هو من ضرورات الدين وواجباته ، وقد جعل القرآن إطعام المسكين والحض على إطعامه من علامات الإيمان، وتركه من لوازم الكفر والتكذيب بالآخرة، من مثل قوله تعالى: (أرَأيْتَ الَّذي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلكَ الَّذِي يَدُعّ اليَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ) (الماعون: 1-3)، وقال في أسباب دخول المجرمين في سقر: (قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلَّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ) (المدثر: 43-44)، وفي شأن مَن أوتي كتابه بشماله فاستحق صليّ الجحيم والعذاب الأليم: (إنَّهُ كَان لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكينِ) (الحاقة: 33-34).

وصور الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقيقة المجتمع الإسلامي ومبلغ تكافله وترابطه وتضامنه، فقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا). فليس المجتمع المسلم لبنات منفصلة متفرقة ، كل منهم يعيش منفصلاً عن غيره. بل: (مَثَلُ المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمَثَل الجسد الواحد؛ إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)

التكافل الدفاعي!

  وهذا التكافل المادي أو المعيشي لبس هو كل ما طلبه الإسلام في هذا المجال، بل هناك أنواع أخرى من التكافل، ذكرها العلامة الفقيه الداعية الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – وجعلها بالتكافل المعيشي عشرة كاملة، فشملت : التكافل الأدبي، والعلمي، والسياسي، والدفاعي، والجنائي، والأخلاقي، والاقتصادي، والعبادي، والحضاري، والاجتماعي.

ومن صور التكافل الدفاعي : وجوب نصرة المظلوم، إذا اعتدي على أرضه أو عرضه أو ماله أو فتن في دينه، فعلى المسلمين فريضة تضامنية أن ينصروه؛ قال تعالى :{إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]، وقال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الأنفال: 72]

تحرير الأسرى

جاء في الموسوعة الفقهية التي تدون الفقه السني، وعلى رأسه المذاهب الأربعة:

“إذا وقع المسلم أسيرًا كان في ذمة المسلمين، يلزمهم العمل على خلاصه، ولو بتيسير سبل الفرار له، والتفاوض من أجل إطلاق سراحه، فإذا لم يطلقوا سراحه تربصوا لذلك. وقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يتحين الفرصة المناسبة لتخليص الأسرى.

وقد استنقذ رسول الله كلا من سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، وقد أسرهما المشركون، بأن فاوض عليهما، وحبس اثنين منهم حتى يطلقوا سراحهما، وكذلك فعل في استنقاذ عثمان وعشرة من المهاجرين رضي الله عنهم بعد صلح الحديبية

والاستنقاذ إذا لم يتيسر عن طريق القتال فإنه يصح أن يكون عن طريق الفداء بتبادل الأسرى، كما يصح أن يكون بالمال أيضا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني” ؛ لأن ما يخاف من تعذيب الأسير أعظم في الضرورة من بذل المال، فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما.

وجاء في كتب الفقه : “فك الأسير من الحربيين إن لم يكن له مال يفك منه فرض كفاية، ولو أتى على جميع أموال المسلمين”.

القدس دين

فإذا كان هذا الوجوب في حق أي أرض من أراضي المسلمين ولولم تكن مباركة، فكيف بالأرض التي باركها الله تعالى، وقدَّسها!!

فالقدس دين، وقضايا الأمة دين، ومقدساتنا دين، ومسرى نبينا  صلى الله عليه وسلم دين.

وأولى قبلتينا دين، وثاني بيت وضع للناس في الأرض ليعبدوا ربهم دين.

وثالث مسجد تشد إليه رحال المسلمين  دين، والحفاظ على أراضي المسلمين وأرواحهم والذود دونها دين. وليس من قشور الدين، بل من فرائضه. مثل الصلاة والصيام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ”   “يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، كما عليك أن تصلي وتصوم وتجاهد في سبيل الله”.