في 2017 صدرت عن دار منتدى المعارف ببيروت رواية “روعان” للكاتبة والأكاديمية القطرية الدكتورة مريم النعيمي، وهي باكورة أعمالها الروائية، وإن لم تكن أول إصداراتها، فقد نشرت للكاتبة قبله عدة أعمال علمية وإبداعية.

بطل الرواية الرئيس الذي صار اسمها هو “روعان” كما يسميه أهل القرية تعبيرا على علاقة الترويع والإرهاب التي تربطه بهم، تلك العلاقة التي حولته إلى أسطورة أثراها الخيال الاجتماعي كما يفعل دائما مع الأساطير والخرافات، حيث لكل واحد موقفه وروايته الخاصة المخيفة لصورة ذلك الوحش الشرس.

لكن “روعان” لم يكن في الحقيقة سوى ذلك الأسود الذي وفد إلى القرية على متن سفينة انجليزية، بعدما تبادلته أيدي التجار، بدء من أمه التي باعته دون رحمة وليس انتهاء بالتاجر الكراتشي الذي باعه هو الآخر لشيخ القرية أبي حازم، هذا الترحل الموغل في الازدراء وصفته الكاتبة بقولها: “لقد كان مثل علبة فارغة تتقاذفها التيارات من ساحل إلى ساحل، ولم تترك له والدته أي إحساس بالانتماء، صار بلا قلب “.

مرجان/روعان يمثل ذلك الطفل الذي حرم طفولته فنمت في نفسه روح الانتقام من بني الإنسان، الصدمات النفسية التي كان عرضةً لها منذ عقل الدنيا جعلته إنسانا بلا مشاعر، وحشا في مسلاخ بشر، فَقَدَ رحمة أمه أقرب الناس إليه فكيف يرحم بقية الناس “.. لا أعرف شيئا من كلمة الطفولة إلا أمي التي نبذتني وبسببها كرهت الناس كلهم، ولم أعد أحدث أحدا إلى أن وطئت قدماي الأرض العربية، كنت أحب والدتي وأكرهها في الوقت ذاته، فلم أعد أفرق بين مشاعري، وحين استعبدني الإنجليز صرت خاليا تماما من كل إحساس إلا المقت لبني البشر “.

روعان/مرجان رجل أسود بشخصيتين، إحداهما بشرية لطيفة ودودة والأخرى روح جني متعطش إلى الدم –كما جاء على لسان أبي حازم- ، وجزؤه البشري يخاف ويكره جزءه الجني ولكنه لا يملك أمر نفسه، فهو ممسوس، فهل تريد الكاتبة أن تقول من خلال هذا الصراع داخل شخصية (روعان/مرجان) أننا محكومون بظروف تنشئتنا الاجتماعية، وأن البذور الأولى التي تلقى في تربة النفس تظل متحكمة في ملامح شجرتنا حتى لو شاخت تلك الشجرة؟ تعزز الكاتبة هذا البعد الاجتماعي في بناء الشخصية، بإبراز دور ما يقوله الناس عنا في توجيه مشاعرنا ومواقفنا من خلال دفع روعان/مرجان إلى العزلة التي جاء يحمل بذورها، لكن موقف أهل القرية منه وشكهم فيه عزز ذلك، كان بإمكانه أن يتخلص من الجني الذي يسكنه لو وجد قلوبا تحضنه، ذلك بأن العزلة الأولى التي عاشها وهو طفل هي التي جعلت الجني يتلبس به.

على مستوى البناء الفني استخدمت الكاتبة تقنية العُقَدِ المتعددةِ، وربطت تلك العقد في بناء سردي متداخل الأزمنة والأمكنة، فالقارئ ينتقل من المونولوج الداخلي لـ”روعان” وهو يتحسس الروح الشرسة التي تتلبسه إلى أبي حازم وهو يقرأ عليه التعاويذ عساه يتخلص من الجن الدموي، وما إن تقترب عقدة “روعان” الوحش من الحل حتى يموت أبو حازم تاركا وراءه كثيرا من الأسئلة التي كانت على وشك الإجابة، ليبدأ غيث ومسارات حياته المتعددة والمتشابكة.

ما يظهر تحكم الكاتبة من أدواتها الفنية السردية هو أنها كشفت في الطرس الرابع عن العلاقة بين “روعان” ومرجان بشكل واضح لكنها أحاطت ذلك بجو من التداخل والشك جعل الدهشة تواصل لهاثها داخل أحداث الرواية، هناك مأزق يعيشه كتاب الروايات يتمثل في صعوبة الجمع بين إعطاء القارئ طعما سائلا يسحبه إلى آخر كلمة في النص وبين كشف المستور وبالتالي نهاية الرواية عمليا، بل نهاية الكاتب نفسه كسارد فني، أعتقد أن الكاتبة نجحت في التعامل مع هذا المأزق الفني الحرج.

لكن الكاتبة منذ أول وهلة وهي تحبسنا معها بتلك الطعوم السردية التي تضعها في طريقنا عبر تمزيق شخصية مرجان إلى قطع ترمي بكل واحدة منها على مكان من طريق القراءة، يجعلنا نتوقع النهاية قريبة في الوقت الذي تظل الأحداث تتشابك دون الحل، من تلك الطعوم قولها إن “مرجان” صاحب قوة خارقة لدرجة أنه “قد يحطم جذع شجرة بقبضة يده”، إن هذا الوصف يجعلنا نكاد نمسك بأنه هو روعان ذاته، لكن الكاتبة تبعدنا عن هذا الاطمئنان للنتيجة حين تُحَدِّثُنا عن طيبة “مرجان” وروحه الإنسانية وهو يعطي حصيلة صيده من السمك لأهل القرية.

الموضوع الآخر الذي يطغى حضوره على الرواية هو “الحب”، وليس الحب في رواية “روعان” تلك العلاقة بين الرجل والمرأة فقط، وإنما الحب بمعناه الكبير الفلسفي والنفسي والسلوكي، والحب في “روعان” هو سر الوجود وملحه، بدأ بالعلاقة بين أبي حازم ومرجان، وانتهى بالعلاقة بين مرجان ومريم أخت غيث.

الحب في “روعان” دافع غريزي، لكنه ليس بالضرورة جالبا للخير، فقد تترتب عليه شرور، وكما قيل فـ”من الحب ما قتل”، كما حصل يوم اختطف “روعان/مرجان” مريم بدافع الحب، وحفظها في تلك المحارة اللؤلؤية، ولم يصبها بأي أذى. إن ثقة الكاتبة في الحب تجعل مريم المختطفة تؤثر على روعان/مرجان رغم اختطافه لها، فهو يأتي إليها بين الحين والآخر ويلقي بنفسه مستسلما إلى جوار المحارة التي تخبئها ويخاطبها بتلك اللغة الرقيقة اللطيفة.

الحب في روعان أيضا يقف خلف سلوكنا منشئا له وموجها، فالنفس الشريرة التي تلبست روعان/مرجان كانت بسبب غياب الحب من قبل أمه، فلو وجد الحب والحنان في طفولته لما تحول إلى ذلك الوحش، هل تريد الكاتبة أن تقول هنا ضمنيا أن ما يعيشه العالم من إرهاب سببه تنشئة خاطئة لا تمنح الحب للأطفال فيكبرون أجلافا وتنمو معهم عقد كره العالم!

يعضد الاستنتاج السابق أن الحب كما ترى الكاتبة يؤثر في الطباع ويصلح الأمزجة الفاسدة، ذلك ما ينصح به رئيس الخدم مرجان حين يكتشف انطوائيته وغرابة سلوكه، يقول له: “إن امرأة في حياته ستهذب طباعه، فهو ليس سيئا، ينقصه فقط مؤنس ورأفة وبعض الحب”، مريم وغيث أيضا يجسدان الحب الصادق حين يتحول إلى وصال عابر للمسافات والأزمنة، وهو نوع راق من الحب الذي يصنع المعجزات. تظهر لغة القرآن داخل الرواية وخصوصا سورة يوسف (لقد شغفها حبا)، الإيحاءات التي تثيرها أساليب ومفردات سورة يوسف تحيل إلى الحب واقترانه بالألم والتباريح.

من القضايا التي اعتنت بها الكاتبة ومنحتها كثيرا من السرد والحوار والوصف داخل روايتها “تفكيك الأسطورة”، إن رواية “روعان” مرافعة قوية عن المنطق وهجمة صارخة ضد العقل الأسطوري والتفسير الخرافي للأحداث والأشخاص والأشياء.

وعلى طول صفحات الرواية ظلت الكاتبة مسكونة بهاجس ضرورة “تفكيك الأسطورة” المتعلقة بوحش البحر، والحفر حولها حتى تتهاوى أسسها المنطقية، متوسلة لتحرير العقل من الخرافة بالحوار الفلسفي والتفسير الاجتماعي ودور المكان (القرية ـ المدينة)، فأهل القرية يظهر عقلهم الخرافي في عدة مشاهد منها أنهم يفسرون الظواهر الطبيعية تفسيرا خرافيا، فالأخدود الذي نتج عن الزلزال وأصبح يبتلع الأسبتة وشباك جمع المحار أعطاه الناس تفسيرا خرافيا ينسب ما يحصل فيه للجن والأرواح الشريرة.

كان أبو حازم شخصية متوازنة، مؤمن بالدين ولكنه لا يؤمن بالخرافة، تقول عنه الكاتبة: “قبل عدة سنوات، كان الشيخ أبو حازم مصرا على معرفة ما يحصل في القرية من غرائب، فهو لم يكن يؤمن بالخوارق رغم اطلاعه الواسع على القصص القرآنية والحوادث التي صاحبت الرسالات السماوية، كان يقول إن زمن العجائب انتهى منذ اجتياح النصارى بلاد المسلمين بتواطؤ منهم”، إن الكاتبة هنا تريد أن ترفع التهمة عن الدين، فالدين – في نظر الكاتبة- لا يؤسس للخرافة، ولكن التدين الخاطئ هو الذي يبني تلك الأوهام، تواصل الكاتبة تفكيك الأسطورة ففي وصفها لأبي حازم تقول: “كان يظن أن كل ما يحصل هو محض سوء فهم لحادث عارض، أو أن أحدهم يحاول عملا غير أخلاقي، فقام باختلاق ما يسمعه الأهالي البسطاء، والذين يسهل خداعهم لطيبتهم وشدة جهلهم”. تلك هي الأسس الواهية للخرافة، فهم سيء لحادث عارض، ولذلك يكره العقل الخرافي التحقيق العلمي لأنه يوهي أسس بنائه، ثم إنه لا بد أن يكون هناك مستفيد من كل أسطورة، فرد أو جهة أو أصحاب حرفة معينة.

تتعمد الكاتبة في إطار إصرارها على تفكيك الأسطورة تحويل القضية إلى جدل بين العلم والخرافة، بين البادية والمدينة، بين العقل المتحرر من الماضي وبين الروح المرتهنة لحكايات قديمة متراكمة، يظهر ذلك من خلال الجدل الدائر بين الإنجليز الوافدين وبين سكان القرية حول تلك الأصوات الغريبة التي تخرج بين المغرب والعشاء، تقول: “كان الغرباء الذين وصلوا القرية من الإنجليز يحبون التجوال على الشاطئ المهجور، كانوا يرونه مكانا رومانسيا وهادئا يبعث في النفس الطمأنينة والهدوء، لا يعرفون أن أكثر ضحايا الوحش تعرضوا للأذى هناك، لكن الغريب في الأمر أنه لم يعد يظهر مذ حلوا، والأدهى أن صرخات تنبعث بعد الغروب وأثناء أداء صلاة العشاء، لا أحد استطاع تحديد مصدرها، فكان العجائز يظنون أنها آتية من الأرواح التي بقيت هائمة لأنها لم ترتح في قبورها، أما الغرباء فيقولون إنها صدى لحدث طبيعي داخل الأخدود، قد يكون خلقا جديدا لطبقات صخرية أو انفصالا لأخرى قديمة، وكان كل فريق يستهزئ بفكر الآخر، لم يتقبلوا لا التفسير العلمي ولا التفسير الميتفايزيقي للصوت” .

إنه هذه الفقرة مكتنزة بفكر تفكيك الأساطير، حيث تقبع الأسطورة في “الذهن الـمُأَسْطَر” لا في الواقع الخارجي، ولذلك لا يحس بالخوف من يأتي مكانا يجهل أن الناس يعتقدون أن به أرواحا شريرة، وفي الوقت نفسه ما إن يصله من يعتقد ذلك حتى تبدأ الأشباح تتقافز أمامه، ذلك ما حصل للإنجليز الذين كانوا يعتبرون الأمر مجرد ظاهرة طبيعية اعتيادية عكس أهل القرية الذين تمتلئ أذهانهم بالحكايات عنه.

المفارقة الممتعة هي تلك المراوحة التي اعتمدتها الكاتبة بين الإيغال في أسطرة الرواية والإصرار على تفكيك الأسطورة، وقد بلغت أسطرة الرواية دهشتها القصوى في الطرس الأخير حيث مشهد البنت الصغيرة وهي تقود أباها غيث لمكان أخته مريم التي تسكن جوف محارة في منزل روعان/مرجان، لقد بلغت الرواية في ذلك الطرس ذروة الدهشة والأسطرة، حيث تداخلت أزمنة وأمكنة في تجسيد عملي للحركة في مجال الروح أو في دائرة الكون المنكسرة كما سمتها الكاتبة، إن الروح لا زمن لها ولا مكان، الزمان والمكان بعدان ماديان، استطاعت الكاتبة التخلص منهما وهي تجعل القارئ في مشهد يجمع أم مريم وأباحازم اللذان توفيا قبل عقود مع مريم المحتجزة في جوف محارة بين الموت والحياة، ومع مريم الصغيرة التي تقود مشهد الإنقاذ الميتافيزيقي.

ما الذي تريده الكاتبة بالتركيز على إنهاء الرواية على وقع مشهد الإنقاذ الميتافيزيقي؟ أظن أن أحد ممكنات التأويل هي أن الكاتبة تريد أن تقول إن تجاهل الروح وعالمها خطأ يوازي تجاهل العلم وقواعده، وأن إنقاذ البشرية التي ترمز لها مريم المحتجزة في محارة أسطورية هو في الإيمان بهما معا، لتكون الخلاصة أن الدين الصحيح هو ذلك الذي يعتمد على الإيمان المتوازن بثنائيتهما، ولعل رمزية القميص الذي استدعته الكاتبة من قصة يوسف حيث طلبته مريم الصغيرة كي تستطيع الاهتداء به إلى مريم عمتها المختطفة ولكي تستطيع به قهر سحر روعان/مرجان، لعل في تلك الرمزية ما يشير إلى ما أثبتُّه قبل قليل من أن الكاتبة تقول إن الإنقاذ هو في ميراث الأنبياء الناصع وليس في تراث التدين المشوب بالخرافة.

تثير “روعان” قضايا أخرى كثيرة منها تحليل شخصية الرجل الإنجليزي الذي يجعل رأس المال مبدأه في الحياة، والذي يحاول تعليم أهل تلك القرية وما جاورها مبادئه حيث يقول: ” لم تعد مبادئ الإنسان ما يصنع قيمته، ولكنها القوة يا شيوخ القبائل”، لكن هذا الرجل أيضا من صفاته “كثرة العلم وقلة الحلم” وهو وصف دقيق مطابق، يظهر أيضا في الرواية أن الإنجليز لا يريدون لأهل تلك القرية أن يتحرروا منهم فهو يريدون جلب أدواتهم الحديثة وتشغيلها بأنفسهم دون أن يمنحوا أهل القرية حق تعلم تشغيلها حتى لا يستغنوا عنه.