شهدت العملات الرقمية انتشارا كبيرا محدثة طفرة في عالم المالية والتعاملات الإلكترونية ورغم اختلاف وجهات نظر المحللين وخبراء المالية بشأن هذه الظاهرة إلا أنها أصبحت حقيقة واقعية في مجال التعاملات المالية.

إشكاليات فقهية كبيرة تواجه التعاملات المالية المتعلقة بالعملات الرقمية وتستدعي هذه الإشكاليات تضافر مجهودات خبراء المالية والفقهاء والأكاديميين لإيجاد إطار علمي يحدد المعالم الرئيسة للتعامل مع التحديات التي أحدثتها ثورة العملات الرقمية.

لا يزال العمل البحثي في هذا الصدد محدود جدا رغم أهميته لرسم تصور عن مستقبل المالية الإسلامية وعلاقتها بالعملات الرقمية. سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على التحديات والعقبات التى تواجه المالية الإسلامية في تعاطيها مع العملات الرقمية التى بدأت تغزوا العالم.

إشكالية مفهوم العملة الرقمية 

يطرح مفهوم العملة الرقمية إشكالية كبيرة داخل الأوساط الأكاديمية وبين المتخصصين في المالية الإسلامية ، فمفهوم العملة في الإسلام يختلف عن المفهوم التقليدي المتعارف عليه  في الاقتصاديات الوضعية، وتشكل هذه الفجوة في التعريف عقبة تواجه العلاقة التى تطبع المالية الإسلامية بالعملات الرقمية. فالإسلام لا يعتبر العملة بضاعة بل يعتبرها وسيلة للتبادل والبيع والشراء وتكون هذه العملة مضمونة القيمة بأصول ثابتة (إحتياط البنوك المركزية من الذهب أو الدولار)، كما أن العملة في الإسلام لاتباع بسعر فوق قيمتها ولا تقترض بهدف الربح لذالك فالعملة في الإسلام وسيلة للتبادل فقط وتستمد قيمتها من الأصول الثابتة، وهنا مكمن الإختلاف بين مفهوم العملة في الإسلام ومفهومها في الاقتصاد الوضعي فالأخير يعتبر العملة بضاعة تباع بسعر أعلى من قيمتها إن وجد وتقرض بالزيادة كذالك (الربا) وهذا ما لايجيزه الإسلام.

وهكذا فإن الإسلام يشترط في أي عملة كانت ورقية أم إلكترونية أن تكون مضمونة القيمة بأصل من الأصول الثابتة المتعارف عليها كالذهب ، بناء على هذا المفهوم يكون الإسلام قد حدد أحد أسس مفهوم العملة الرقمية ، فهل يتوفر هذا الشرط في العملات الرقمية التى تجتاح الأسواق العالمية اليوم؟

مواكبة التطورات التكنولوجية

أصبح العالم اليوم أكثر اندماجا بسبب تداخل منظوماته المالية وتكامل بعضها مع بعض، وقد فرضت المالية الإسلامية نفسها في السوق العالمية كمنظومة مالية لها خصائصها و مميزاتها حيث نجحت هذه المنظومة في استقطاب المستثمرين وحققت نجاحات كبيرة ، غير أن المحافظة على هذه النجاحات وزيادتها يعتمد على مدى قدرة المالية الإسلامية على مواكبة التطورات السريعة التي يشهدها قطاع المالية في العالم خاصة في مجال التكنولوجيا التى سرعت من خدمات المالية وزادت من كفاءة البنوك و حسنت من أدائها.

المتتبع لتقارير المؤسسات المختصة في مجال التكنولوجيا المالية يلاحظ فجوة كبيرة بين البنوك الإسلامية و والبنوك التقليدية في مجال استخدام التكنولوجيا المالية. فمثلا يشير تقرير مؤسسة Consultancy Accenture أن 50 مليار دولار استثمرت في التكنولوجيا المالية عام 2010 تشكل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي يعيش بها ربع المسلمين في العالم 1% فقط من هذا المبلغ وهي نسبة ضئيلة جدا وانعكاساتها على القدرة التنافسية للبنوك الإسلامية سيكون مؤثرا. ورغم هذه المعطيات فإن تطورا ملحوظا تشهده المالية الإسلامية في هذه المنطقة  فقد ارتفع عدد المؤسسات العاملة في مجال التكنولوجيا المالية من 46 مؤسسة سنة 2013 إلى 105 تغطي مختلف منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد ليصل 250 مؤسسة في حلول 2020 (Wamda Research Lab Report 2017).

التطورات التكنولوجية السريعة التى يشهدها قطاع المالية في العالم تحتم على المالية الإسلامية سرعة التحرك ودقة العمل كي لا تبقى خلف الركب ، خاصة بعد أن دخل هذا التطور مرحلة جديدة تمثلت في  ثورة العملات الرقمية والتى هي إنعكاس لمستوى التقدم التي وصلت إلية التكنولوجيا المالية.

 كيف نواجه ثورة العملات الرقمية ؟

عقبات كبيرة تواجه المالية الإسلامية في مواجهة ثورة العملات الرقمية منها ما هو متعلق بالإطار الشرعي ومنها ما هو متعلق بالإطار التطبيقي ويبقي التحدي الشرعي الأكبر والأهم ، لاشك أن عدم مواكبة التطور التكنولوجي قد يتسبب في ضعف التعاطي مع العملات الرقمية ، من هنا على البنوك الإسلامية من أجل مواجهة هذه التحديات دعم وتطوير المنظومة البحثية لأن البحوث والدراسات المعمقة هي الوسيلة الوحيدة للحصول على أجوبة وحلول للكثير من الإشكاليات المتعلقة بالعملات الرقمية. والمتأمل لتجربة البنوك التقليدية يجد أنها تولي اهتماما كبيرا لقسم  البحث والتطوير (Research & Development) وتنفق عليه أموالا هائلة ، دول عديدة في العالم الإسلامي استطاعت عبر تطوير المنظومة البحثية الاستفادة من الموروث الفقهي في خلق إطار قانوني تنظيمي لما يواجهها وركزت هذه الدول في تجربتها على مايلي:

– تطوير المنظومة البحثية: دعم وتطوير المنظومة البحثية من خلال تأسيس مراكز بحثية قوية تضم الفقهاء وخبراء المالية والاقتصاد وربطها بالمؤسسات المالية الرئيسية في الدولة كالبنك المركزي.

– مواكبة التطورات التكنولوجية: يشهد قطاع التكنولوجيا المالية تطورا ونموا سريعا ألقى بظلاله على أداء البنوك التقليدية في العديد من الدول حيث زادت هذه التكنولوجيا من كفاءة هذه البنوك وحسن من أدائها وزادت من قوتها التنافسية.

هناك تجارب مميزة في بعض الدول الإسلامية استطاعت من خلالها مؤسسات مالية متخصصة تكييف العملات الرقمية مع قوانين المالية الإسلامية في هذه الدول ، حيث حصلت شركة ماليزية تدعى Hello Gold  على شهادة موافقة مع الشريعة الإسلامية لمنتج خاص بالعملات الرقمية.

تقوم الشركة باصدارات لعملتها الرقمية  التى أطلقت عليها ( GOLDX ) والمدعومة بمخزون الشركة من الذهب الموجود في سينغافورة ، وتتميز عملية التحويل بتحديد الفترة الزمنية وهو ما يعني وجود الشفافية والدقة في المعاملات وهذه مبادئ من مبادئ قانون المعاملات المالية الإسلامية ، ستوسع الشركة تجربتها لتشمل تايلند وبهذا تكون ماليزيا قد خطت خطوة مهمة نحو التكامل ومسايرة عالم المالية من خلال تذليل العقبات المتعلقة بالأمور الشرعية والتقنية الخاصة بالعملات الرقمية.