خامسا ــ القرآن والأكوان أيما تطابق :

يؤسس أبو القاسم حاج حمد لإثبات تطابق الكون المنثور أو الذري، مع الكون المسطور أو الحرفي، من آية كريمة تبين ذلك وهي في قوله تعالى”ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم“(الحجر87)، وهنا تساءل حول السبع المثاني التي يتلوها القرآن، فوجد أن السبعة التي منها اثنان في الكون لا تخلو من الأرضين السبع والسموات السبع كذلك، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتيهن تكريما له بالرسالة الخاتمة و إمامة العالمين.

ومن ظن أن القرآن تم تفسيره وتبيانه بشكل نهائي فقد حدَّ من كرميته ومجيديته[35]، لأن سره المكنون دائم التكشف والتمظهر، وقد نوه توشيهيكو إلى أن كل حرف في القرآن أو كلمة لها نسقها داخل باقي الحروف والكلمات في النسق ذاته وأعطى مثال كلمة “الله” في عرف نسق النص الجاهلي ثم في النسق القرآني[36]، وبين تطور العائد المعرفي الدلالي لهذا المصطلح من عقلية إلى أخرى، تماشيا مع مقتضيات الزمان والمكان و سؤال الإنسان؛ إن القرآن لم يتم تبيِينه، فالسير في مضماره سرمدي وإن الدين عند الله الإسلام، و عند هاهنا ليست ظرفية زمانية أو مكانية، وإنما هي خارج الزمان والمكان، فالسير بالقرآن في مضمار الإسلام يسير إلى الله في إطلاقه، وهو بذلك لم يتم تبيِينه، ولن يتم، وإنما تم إنزاله بين دفتي المصحف[37]، فالقرآن دائم التبيُّن والتكشف في عالم الإنسان المنتهي أمام عالم القرآن اللامتناهي.

وبهذا كانت السور المباركة المنزلة مثاني، أي ــ حسب محمود طه ــ تحمل معنيين اثنين، الأول غيبي عند الله، والثاني شهودي يتسنى للإنسان تبيانه[38]، وعليه فللقرآن باطن يدركه الأنبياء والمقربون الأبرار من الملائكة، لكونهم يلِجون عوالم الغيب التي أرادها لهم الله، وظاهر يدركه الإنسان بحكم تكليف الله له، وآمريته إياه بتفعيل السمع والبصر والفؤاد، نابذا بذلك اقتفاء ما ليس للإنسان به علم.

إن الإعجاز القرآني المهيمن على متوسلات الإنسان دال على تجدّد عطائه وكرميته، و “قد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن، هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي[39]“، وتاليا إن القرآن بهذا يعادل المتغيرات الطارئة على حركة الطبيعة والإنسان معا، وهنا تتجلى المعادلة التي أقرها أبو القاسم التي سنبينها في الصلوات اليومية التي يتصل بها الإنسان بعالم الغيب.

 

سادسا ــ الصلاة ومعادلتها الكونية :

إن الصلوات هي خمس، لكن ما السر في عدد ركعاتها ؟، لابد أن حكمة الله تتجلى لنا حولها كونيا، أي بمتقابلاتها الموضوعية، وبالضبط في العالم الفيزيائي، وهنا يرى أبو القاسم أن المنهج المعرفي في تحليل القرآن يحيلنا إلى حقائق جد ظاهرة لكننا لم ننتبه إليها بحكم عاداتنا في تعطيل ما أمر الله ـ تعالى ـ به أن يتأمل، وهي قوى السمع والبصر والفؤاد، فصلاة الصبح ركعتان لأنها تقابل في الكون ظاهرة الانفلاق بين النور والظلام كظاهرتين فيزيائيتين منذ خُلق الكون، وهنا قال تعالى:”فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم”(الأنعام96)، فبفعل هذه الآية الكونية التي تتمثل في انفصال ثنائية النور والظلام ومجيء الإصباح، يقوم الإنسان و يتضرع بثنائية الصبح شكرا لله على إحيائه بعد توفيه في الليل.

أما صلاة المغرب فهي كونيا، تَشكُّل للمركب الذي يعد نتاج امتزاج ثنائية النور والظلام، المؤدية بذلك إلى آية ثالثة أو الشفق الأحمر، لهذا كانت ثلاثية، فبان أن الإنسان يسرع فيصلي لله شكرا له على مضي يومه كذلك، ثم تأتي صلاة العشاء التي تعني كونيا السكون والسكن والاستواء، تماما كما استوى الله على العرش دون تجسد، والسكن يعني قيام أربعة دعائم كما في البيت، لهذا جاءت العشاء رباعية لتُقابلها، و أما رباعية الظهر والعصر، فتقابل هي الأخرى استواء الشمس من حيث توسطها للسماء، ثم زوالها[40]. وبهذا كان لعدد الركعات في كل صلاة متقابلات كونية ليست مجرد عبث، بل تبين العلاقة الترابطية بين منهج القرآن في تحليل الوجود الكوني وحركته.

هذا في عدد الركعات، و ربما كان تضرع الانسان بيديه في الصلاة إلى الله يشبه إلى حد بليغ عروج الملائكة إلى ربها بأجنحتها، وقد أخذ الجناح معنى الطيران عند الملائكة، و طالما أن الإنسان لا يطير،  فجناحاه للعروج إلى ربه هي اليدان التي نستعملها في الصلاة من تكبيرة الإحرام إلى الجلوس للتشهد و السلام، ولم يكن من الصدفة أن يأتي ذكر الله ـ تعالى ـ لعدد أجنحة الملائكة معادلا لعدد ركعات الصلوات المكتوبة[41] وهذا في قوله ـ سبحانه ـ“الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث و ربع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير”(فاطر1). والمثنى تقابل الصبح أو الفجر، والثُّلاث تقابل المغرب، والرُّباع تقابل الظهر والعصر و العشاء، والأجنحة هي اليدان التي لها الدور الرئيسي في ممارسة الصلاة.

فبان إذن بحق أن المقابلة الكونية للقرآن موجودة، كما أن المقابلة القرآنية للكون موجودة كذلك، وهذا ما لا مناص من البحث فيه، على مُسَلَّمة أن القرآن منهج أكثر منه دستور تشريعي؛ وقد ركز على هذا أيضا طه جابر العلواني في قوله أن أول الأمة قد صلح بأمور ومحددات منهجية استمدت من خصائص كتاب الله، وتطبيق وتنزيل على واقع نبوي دقيق، منها عالمية الخطاب وحاكمية كتاب مهيمن، ونبوة خاتمة، وشريعة تخفيف ورحمة[42]، وهذه خصائص انفرد بها دين الإسلام دون سائر الأديان السماوية السابقة، ولهذا فهو عالمي، وما يعاني منه العالم المعاصر في شتى إشكالياته، لا سيما العالم الغربي المتقدم، إنما  بسبب تهافت مناهجه القاصرة عن وضع مقاربات منهجية بين الغيب اللامتناهي، والطبيعة المتشيئة؛ وإذن فإن منهجية القرآن هي الحل لإشكاليات العلم المعاصر وترقية بحوثه المنهجية في العلوم الطبيعية والإنسانية على حد سواء[43]، و إلا فإن الأزمات ستستمر في التفاقم بحكم شساعة الهوة بين الغيب والطبيعة في منطق العلم المعاصر، وربما الدليل على ذلك هو السؤال حول الدين من جديد لعله يحل بعض المآزق التي وقع فيها الإنسان المعاصر، وقد عجز العلم عن حلِّها بمنطقه.

 

 خاتمة

 بعد هذه المحاولة لتحليل الإشكالية، يمكننا أن نجمل الخلاصة في النقاط المهمة التالية:

ـ الإيمان بشكل واقعي أن القرآن كتاب مهيمن على كل الشرطيات الإنسانية ومنها العلم المعاصر.

ــ إن المنهج الذي اقترحه أبو القاسم، يبتغي من الباحث التحلي بروح النقد، والتخلي عن الخلفيات التراثية.

ـ هذا المنهج هو المنطق التحليلي للقرآن، وليس مجرد تفسير كما كان سائدا من قبل.

ـ تسعى الإبستمولوجيا التحليلية إلى تجاوز الماضي، مع إرساء قواعد لتحليل القرآن لاستيعابه قضايا العصر.

ـ القرآن في رؤية حاج حمد، هو المعادل الموضوعي للوجود الكوني وحركته، وبذلك فهو المتجدد بعطائه دائما.

ـ ضرورة النقد لكل المناهج التفسيرية القديمة، والسائدة حتى الآن، وليس يعني ذلك إهمالها مطلقا.

ـ المنطق الاستيعابي والتجاوزي يفضيان بالباحث المجدد إلى نقد نتائج العلوم المعاصرة، وقصورها عن إيجاد المقاربة بين الغيب والإنسان والطبيعة، بوصفها جدلية مطلقة تقوم على الرؤية التوحيدية.


قائمة المصادر والمراجع:

[35]  أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، مصدر سابق: 127.

[36]  توشيهيكو ايزوتسو: مرجع سابق: ص 44.

[37]  محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام، ط4، أم درمان، السودان، 1971، ص 163.

[38]  المرجع نفسه: ص 164.

[39]  محمد محمد داود: كمال اللغة القرآنية، دار المنار، القاهرة، ص 198.

[40]  محمد أبو القاسم حاج حمد: تشريعات العائلة في الإسلام، تق وتع: محمد العاني، دار الساقي، ط1، بيروت، 2011، ص 108.

[41]  محمد أبو القاسم حاج حمد: تشريعات العائلة في الإسلام، مصدر سابق، ص108.

[42]  طه جابر العلواني: الأزمة الفكرية ومناهج التغيير، دار الهادي، ط1، بيروت، 2003، ص168.

[43]  طه جابر العلواني: الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي، ط1، بيروت، 2003، ص106.ش