كنت أقرأ كتاباً معاصراً في تفسير القرآن الكريم، فوجدته في تفسيره لفواتح سورة البقرة يقسّم المجتمعات البشرية إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين. وقد أعجبني حينها هذا التصنيف؛ لأنه يستند إلى فكر الإنسان وليس إلى لون بشرته واسم قبيلته، حيث بإمكان أي شخص أن ينتقل من صنف إلى آخر، وأن يختار النمط الذي يعجبه، ثم هو بعد ذلك يتحمل مسؤولية خياره وقراره، بخلاف تلك التصنيفات التي لا يملك فيها الإنسان خياراً ولا قراراً.

التصنيف أيضاً استند إلى آيات واضحة؛ فالمفسّر -رحمه الله- انتقل من آيات المؤمنين: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، ثم آيات الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، ثم انتهى إلى الصنف المتلوّن الماكر: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) وهؤلاء هم المنافقون.
مرّت على قراءتي لهذا التفسير ربما أكثر من ثلاثة عقود، وبين الفينة والأخرى أسمع مثل هذا الكلام هنا أو هناك، وأقرؤه في ثنايا بعض البحوث والمقالات، حتى صار كأنه ثقافة سائدة لدى هذا الجيل من المفكرين والدعاة.

لا أدري كيف انقدح في ذهني مؤخراً استشكال وأنا أقرأ هذه الآيات، كيف أن الله تعالى قد حسم أمر الصنف الثاني وحكم عليهم بسوء الخاتمة وأنهم لا يؤمنون، وأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، فهل هذه الصفات تنطبق على هذا الصنف الذين هم ليسوا بمؤمنين ولا بمنافقين؟ كيف والله يأمرنا بدعوتهم والتلطّف بهم (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؛ (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، كيف والواقع يشهد بإيمان كثير منهم، والصحابة -رضي الله عنهم- أكبر شاهد على ذلك؟

من الواضح الآن أن القرآن لا يتكلم عن صنف كامل يقابل الصنفين الآخرين، وإنما يتكلم عن نفر محدودين ومعيّنين من أولئك الذين علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وأنهم قد خُتم على قلوبهم وعلى سمعهم بسبب كبرهم وعنادهم وسوء خُلقهم؛ بمعنى أن فواتح البقرة تكلمت عن الذين بلغتهم الدعوة كاملة نقية وقامت عليهم الحجة، ثم اتخذوا موقفاً واضحاً وحاسماً منها. أما باقي شعوب الأرض من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فقد جاء الحديث عنهم بعد هذا التصنيف مباشرة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، وجاء مثله وشبهه في آيات كثيرة مثل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)؛ (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)؛ (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).

إن القرآن يعلّمنا هنا أدب الحوار، وأدب الخطاب، هكذا قال نوح لابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا)، وقال إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، وقال كل نبي لقومه: (يَا قَوْمِ)، وها هو القرآن يخاطب الناس كل الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).

إنه خطاب الله إلى خلقه، وخطاب المؤمنين إلى هذا العالم؛ الخطاب بالمشتركات الإنسانية التي تنصب جسور التواصل والتعاون وتردم فجوات العنصرية والكراهية.