إن الناظر في تحولات الحياة، وجبروت الظالمين والطغاة، قد ينتابه حالة من الحزن الشديد؛ حتى يتمنى أن يعاجلهم العقاب ويرى القصاص العادل أمام عينيه من الظالمين؛ انتقاما للمظلومين، فيأتي بلسم البيان الإلهي القرآني مراعيا الحالة النفسية خطابا للمؤمنين عبر عصور الزمان، في كل وقت وحال، ابتداء من الرسول – صلى الله عليه وسلم- وخطابه خطاب لأمته ، ممن حوله ومن بعده، السائرين على خطاه ، فجاء الخطاب بلسما عجيبا يلامس أعماق النفس، موافقا تمام الموافقة للحال، إذ قال: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَۚ) وما كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليحسب أو يظن، ولا كل مؤمن صادق الإيمان، وإنما كان ذلك مراعاة تمام المراعاة لمقتضى حال الخطاب، لما فيه من عمق التسلية، والتثبيت للمؤمنين؛ وما هو حاصل من شدة جبروت الظلم وحماقته وصلفه، فكان خطاب تسلية وتثبيت، مقرونا بنون التوكيد (فَلَا تَحۡسَبَنَّ) ، وإذا كان الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- يخاطب بهذا الخطاب، ويكرر له للتأكيد والتثبيت (فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ ) فإنه للمؤمنين كذلك فيه مزيد تسلية وتثبيت، فقد نال رسولهم ما نال من البلاء، فهم من باب أولى في التأسي به والاقتداء، ومثلما هو خطاب تسلية وتثبيت، هو كذلك في فحواه خطاب تهديد ووعيد للظالمين على مر الزمان.

واستعمل البيان المعجز لفظ الحسبان دون سائر أفعال الظن في هذا المقام (وَلَا تَحۡسَبَنَّ)؛ لأن الحسبان شيء من الوهم الذي ينتهي بالوصول إلى الحقيقة، وهو ما أفصح عنه البيان القرآني في مواضع متعددة( وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ) (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُۥۗ) (وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ) (وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ ) (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ١٦٩)
فالنفوس المؤمنة لا يتلبس بها أدنى وهم في عدل الله ، فضلا أن تظن أو ترتاب، وفي هذا ما فيه من دقة الخطاب، مع الانتهاء إلى الوصول إلى مرامي الحكمة في التأخير والإمهال ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ).

وفي استحضار لفظ الجلالة ( وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ) استحضار لكل معاني الألوهية، التي من لوازمها الحكم والقضاء، والحساب والجزاء، وذلك بمقتضى ألوهيته لعموم الخلق، جلَّ وعلا.

وقد نفى المولى – عز وجل- عن نفسه الغفلة في مواضع متعددة في معجز البيان إذ قال: ( وَمَا ٱللهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُون) ( وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) فقد نزَّه نفسه عن الغفلة بموجب ربوبيته، وبموجب ألوهيته، فما كان سبحانه ليخلق الخلق ويغفل عنهم ( وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلۡخَلۡقِ غَٰفِلِينَ)

واستعمل البيان المعجز لفظ الغفلة في هذا السياق؛ لأن الغفلة هي عدم إِدْرَاك الشَّيْء مَعَ وجود مَا يَقْتَضِيهِ، من ذلك قوله تعالى ( وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ) فترك السلاح مع وجود تربص الأعداء في المعركة غفلة.

لذلك جاء النظم الحكيم ( وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ) فما كان -سبحانه- غافلا عن الظالمين مع وجود طغيانهم وظلمهم، الذي تجدد حدوثه بدلالة المضارع( يَعۡمَلُ)، واتسع وعم بدلالة حذف المفعول، ومجيء(يَعۡمَلُ) دون (يَفْعَلُ)؛ ليشمل ذلك كل أعمال الجوارح والقلوب، الصادرة ممن أجرموا وأغرقوا في الظلم، حتى أصبح وصفا ثابتا فيهم بدلالة الاسم ( ٱلظَّٰلِمُونَ)؛ ولكونه الخالق لجميع الكون؛ ناسب ذلك تنزيه نفسه – عز وجل- عن الغفلة بمجيء ( غَٰفِلًا ) لا الفعل ( يَغْفَلُ) في محكم البيان.