تتناول هذه المقالة وما يتبعها ما يتعلق بهوية الضمير المجتمعي في القرآن الكريم وفلسفته، وضرورته في حركة التغيير الحضاري للأمم والمجتمعات، كما نتناول موقف القرآن من المفهوم والشروط والفاعلية والدور والوظيفة، والنماذج المجسدة في التاريخ كما سجلها الوحي.

        الضمير المجتمعي الضرورة والماهية

لكل مجتمع أدواته التي تنظم حركته ونشاطه من أجل المحافظة على بقائه ووجوده من ناحية، ومن أجل تحقيق أهدافه ومصالحه المشتركة في هذا الوجود من ناحية أخرى. بيد أن هذه الأدوات تنقسم من حيث الشكل إلى قسمين، الأول: ما هو مكتوب (ويسمى : الدساتير والقوانين) والتي تتضمن جملة من البنود التي تسالم المجتمع على إقرارها (عبر عقود يختارها ويحددها) بما يحفظ وجوده واستمراره، وما تتضمنه من شروط مُنظِمة لحركة الحياة وأنشطة الفرد والجماعة، وكذلك جوانب الثواب والعقاب بصورة مادية.

أما القسم الثاني: فيتعلق بالأدوات غير المكتوبة والتي تسكن في وجدان وقيم الأفراد في المجتمعات المختلفة، ولها نفس قوة التأثير في حركة الحياة في المجتمع، وربما تفوق الأدوات المكتوبة، لأنها هي التي تُنظم ما يُكتب وتُفصِّله وفقًا لوجدان وقيم جموع الناس التي تحيا في هذا المجتمع، وهي التي يرتضي العقل الجمعي توريثها للأجيال القادمة.

وهذا القسم غير المكتوب – أو بالأصح المكتوب في وجدان وقيم الناس ويتوارثونه- هو ما اصطُلِح على تسميته في العصر الحديث “بالضمير الجمعي” أو “المجتمعي”، أو بحسب إميل دوركايم (Collective conscience). ويقصد به الضمير الجماعي، والذي يعني عنده “العقل الاجتماعي المشترك” لأبناء المجتمع الواحد، وبالمعنى الأخلاقي: ما يشترك فيه أعضاء المجتمع كقيم أو مشاعر، وبالمعنى النفسي هو: ما يهتز أو يلتهب بسبب “جريمة” ما أو تعرض الوطن لأزمة أو كارثة، وبهذا الشكل.. يظل “الضمير الجماعي” جزءًا من “الوعي الجماعي” للمجتمع، الذي يُكوِّن بدوره جزءًا من ثقافة هذا المجتمع[1].

“والضمير الجمعي” له من التأثير في حركة المجتمع ما يجعله عاملًا رئيسيًا في مسألة القبول والرفض لكل ما يعتري المجتمع من تغيرات، وهو الذي يحدد الصالح النافع، والطالح الضار منها، وهو الذي يُسَهِّل مرور قيم وأخلاق وأفكار جديدة، أو يمنعها ويقف أمامها حجر عثرة، خلاصة هو الذي بيده مفاتيح التغيير الحضاري لمجتمع ما، وكذلك المانع من السقوط والانهيار الحضاري في حالة حيويته؛ نظرًا لما يمتلكه من قوة “المشترك” التاريخي والنفسي والأخلاقي في مكونه الوجداني والعقلي والسلوكي.

في ضوء ما سبق يمكن القول أن هناك عدة محدِّدات للضمير المجتمعي وهي:

1– أنه يمثل كل ما هو “مشترك” وجداني وقيمي للوعي الجمعي.

2– أنه معيار للهوية الثقافية الاجتماعية، ومعيار المرغوب والمقبول وغير المرغوب والمفروض.

3– أنه مركز قبول أو رفض التغيرات الآتية من الخارج.

4– أنه ضرورة حضارية للمحافظة على كيان الجماعة والمجتمع من الانهيار أو التلاشي.

5– أنه يقوم بضبط اتجاه حركة المجتمع وتوجهاته.

6– أنه ضارب في عمق التاريخ للمجتمع، وكذلك في عمق المعتقدات والقيم الأساسية.

فلسفة الضمير المجتمعي في القرآن

تقوم فلسفة الضمير المجتمعي في القرآن على التعاضد والتلاحم بين أفراد المجتمع، ويظهر في القرآن تحت عنوان “الولاية” أي ولاية المؤمنين والمؤمنات لبعضهم البعض{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وما تتبعه تلك الولاية من واجبات تكليفية عامة للجماعة المؤمنة في المجتمع، وهذه الواجبات هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الله والنبي {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }[التوبة – الآية 71 ].

والولاية هنا تعني القيام بـ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من قِبَل المؤمنين كل المؤمنين من خلال تهيئة المجتمع لقبوله لهذه القضية المهمة في واقع المجتمع، أو السعي لهذا التمكين والتهيئة لهذه القضية، ومن ثم فإن الضمير المجتمعي في القرآن يقوم على الوعي بالمسؤولية الواجبة (التكليف) من قِبل (المكلَف) بها من قبل الله تعالى دون انتظار عقود أو وظائف لهذا الواجب الشرعي – المجتمعي.

إن تلك الولاية تتعلق بالمصالح العامة في المجتمع، وترتبط بحقوق الله تعالى – كتلك – التي يتعلق بها النفع للناس جميعًا من غير اختصاص بأحد، فهي ولاية عامة. إن صح هذا الإطلاق، بمعنى أن من يقوم بهذه الوظيفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إنما يمارسها قيامًا بحق عام للمجتمع يتعلق بمصلحة جماعية فيه، والحق العام للجماعية، هو أحد جناحي الحقوق فيها حيث يتوازي ذلك الحق مع الحق الخاص للأفراد، وبدون المحافظة على الحق العام، لن يستطيع الفرد أن يتمتع على نحو تام بحقه الخاص[2].

القرآن ومركزية الواجبات

القرآن –دائمًا- يقدم فكرة الواجبات على الحقوق، لذا نجد الوحي في كثير من خطابه للمؤمنين أو الناس على وجه العموم يطالبهم بما عليهم من واجبات يجب تأديتها: سواء كانت تلك الواجبات نحو الله تعالى كما في قوله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء:36]، أو نحو الناس – وهي الكثرة الغالبة في الوحي كما في قوله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}[الأعراف:85] فواجب الفرد نحو الجماعة، ومن ثم نحو المجتمع الأكبر من ثوابت الخطاب القرآني، وكثافة هذه الواجبات الواضحة تَظهرُ للقارئ العارضِ، كما تظهر للملاحظ الدقيق.

ومن هنا أسس الفقهاء فكرة “الفروض الكفائية” التي يجب أن تقوم بها الجماعة المؤمنة في المجتمع المسلم، والتي لا يستقيم حال المجتمع / الأمة إلا بأدائها، بل يرى البعض أن هذه الفروض الكفائية التي يجب أن يؤديها “الضمير الجمعي” نحو الأمة هي أخطر وأكثر ضرورة للأمة من الفروض العينية، ونقصد هنا على الترتيب وليس التشريع.

و”الفرض الكفائي” هو ما يلزم جميع المسلمين القيام به، وإذا قام به بعض المسلمين أُعفي الباقي من القيام به، مثل الجهاد وصلاة الجنازة، أو كما يعرِّفه أبي حامد الغزالي بأنه كل مهم يريد الشرع حصوله، ولا يُقصد به عين من يتولاه. وهذا بخلاف “الفرض العيني” الذي يجب على كل مسلم القيام به، كالصلاة والزكاة والصيام.

ويرى البعض أن الفروض الكفائية أهم وأكثر خطورة للمجتمع والأمة من الفروض العينية وذلك نظرة إلى عِظَم آثارها وتمدد مساحات نتائجها “فالواقع أن هذه الفروض المسماة بالكفائية لا تقل عن الفروض العينية في المرتبة من حيث نظرة الشرع إليها، وهي لا تختلف عنها في طبيعتها. من حيث أن كلاهما (العيني والكفائي) مقصود من الشارع ومتحتم حصوله، وأن كلًا منهما جزء ذاتي من الشريعة التي أمر الله سبحانه بحفظها وتنفيذ أحكامها. والفروض الكفائية تتفق مع العينية – أيضًا – في أن عدم القيام بها مثل الأخرى يترتب عليه: إما الوقوع في الإثم، أو الفسق، أو حتى الكفر – بحسب أي مذهب من المذاهب الفقهية – بل إن التبعة التي تترتب على تعطيل هذا (الكفائي)، أو الإخلال به أفدح من تلك التي تنشأ نتيجة عدم أداء الفرض (العيني). إذ أن التبعة الأولى تعم الأمة بأسرها، ويلحق الإثم بها كلها : فتوصف بأنها عاصية، أو قد تنعت بالفسق، أو بما هو أخطر من ذلك، إن قُصر في القيام بأداء هذه الفروض الكفائية ولم يوف به[3].

أما عن أهم الفروض الكفائية التي يجب على الأمة القيام بها فهي: إقامة الدولة، والقضاء، والنظر في المظالم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بعلوم الدين والدنيا، وتوفير وسائل العمران، والتكافل الاجتماعي، وغيرها مما يحفظ كيان الأمة ووجودها ويحفظ حيويتها وأداءها لرسالتها وبلاغها إلى العالمين، وفقًا لتطورات كل عصر ومتغيراته ومستجدات الاحتياجات والمتطلبات.

كما عَرف الفقه الإسلامي-أيضًا- مفهوم “الحق العام” المتعلق بمصالح المجتمع مما يجب أن يحفظ، وأن هذا الواجب يقع على عاتق كل إنسان حتى لا تتطاول يد العابثين إليه بما يخزيه، لأن أفراد المجتمع ركاب سفينة واحدة، وأصحاب هدف مشترك ووحدة مصير[4].

ثم كانت أيضًا “المصلحة ” من أدلة الشرع والتكليف، وهي ثابتة بأدلة الشرع والعقل وسيرة العقلاء، إن النفع ودفع الضرر هو غاية الشرع والعقل في كل زمان ومكان، وبهما يُحكم بين الناس في معاشهم وحياتهم، و”المصلحة” تقوم كذلك على نفي الضرر ودفعه والسعي نحو المنفعة والحفز إليها بما يحقق سعادة المجتمع كله وسعادة أفراده. وهو ما يتطلب بدوره معرفة ما يحقق صالح المجتمع في حاضره ومستقبله القريب والبعيد.

الوظائف الحيوية للضمير الجمعي

إن فكرة الضمير الجمعي – كما تقدم – قامت لتحقيق ثلاثة أمور للجماعة الاجتماعية والأمة، الأول: حفظ البقاء، والثاني: حفظ النماء، والثالث: حفظ الأداء.

وحفظ البقاء: أي حفظ كل ما من شأنه أن يقوم عليه المجتمع من مقومات وجدانية وعقلية ومادية، وهذه المقومات مركوزة في نفس الضمير المجتمعي عبر التاريخ والأفكار.

وحفظ النماء: أي حفظ كل ما من شأنه أن يطور المجتمع ويسهم في ترقية أفراده، ويضمن لهم عدم تخلفهم عن السير الإنساني العام في ضوء مقومات البقاء والوجود، أي أن حفظ النماء هو ما يضمن من وجه آخر الاستمرار والوجود، لأن ما يجمد يثبت ومن يثبت يتوقف ويموت.

وحفظ الأداء: أي حفظ كل ما من شأنه أن يؤهل المجتمع للقيام بأداء رسالته الحضارية التي يحملها للبشرية، وفي المجتمع الإسلامي هي ما يضمن أن يقوم بالبلاغ والشهود على العالمين.


[1] سامي خشبة : مصطلحات فكرية، ص358.

[2] عبدالله مبروك، الحسبة، كتاب الأزهر، ص 11.

[3] محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية، ص264.

[4] عبد الله مبروك: الحسبة ودور الفرد فيها، كتاب الأزهر، ص24.